تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

العموم بوصف لا يوجد في غيره هو الآخر مئنة من كمال القدرة والحكمة الربانية، فلا يستوي الأفراد في الخُلُق الباطن والخَلْق الظاهر، فذلك من تنوع الأحداث بتنوع الصور والأشكال، فالوصفان قد ثبتا لرب البرية، جل وعلا، حال التماثل في القدر المشترك فهو النوع الجامع للأفراد، فيشترك أفراد النوع الإنساني في خصائص خَلقية وخُلقية هي الأصل، كما تقدم، فنوازع النفوس وصور الأبدان إجمالا متماثلة، وحال القدر الفارق بين الأعيان فلكل عين أخلاق باطنة وهيئات ظاهرة اختصت بها، فوقع الاشتراك في الأصل، فذلك من قبيل الاشتراك المعنوي في الكليات الجامعة للنوع الإنساني، ووقع التباين في الفرع فتلك أفراد الكلي في الخارج، فلكل فرد، كما تقدم، وجود مستقل لا يشركه فيه غيره، وخصائص لا توجد في غيره، فذلك تنوع لا يحصى قدره، فبعدد الأفراد يكون عدد الآيات المظهرة لحكمة الرب، جل وعلا، في التنويع بين أفراد النوع الإنساني خَلقا وخُلقا كما تقدم.

ثم جاء جواب القسم: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)، فذلك من التشويق بالإجمال الذي عقب بالبيان لأجناس السعي، من الخير والشر، فجاء التفريع:

فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى: فحذف المفعول ونزل المتعدي إلى الاثنين: (أعطى)، والواحد: (اتقى)، منزلة اللازم مئنة من العموم، فعطاياه كثيرة، وصور تقواه للرب، جل وعلا، عديدة، بل صور التقوى نفسها تتباين بتباين المتقى، فيتقى الرب، جل وعلا: (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، ويتقى عذابه الأخروي: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)، ويتقى ظرفه: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ)، ويتقى عذابه الدنيوي فهو من العقوبة المعجلة لأهل العصيان: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ)، وكلها، عند التحقيق ترجع إلى تقوى الرب، جل وعلا، فيتقيه العبد باجتناب سائر معاصيه، فلا يناله من أثر أوصاف جلاله بالانتقام من المجرمين والأخذ لأعداء الدين، لا يناله من ذلك شيء، ولازم ذلك تلبس النفس بالضد من الطاعات، على ما اطرد مرارا من حركة النفس في المعقولات والمحسوسات، فلا تهدأ أبدا إذ ليس ذلك مما جبلت عليه، فهي حساسة متحركة بما أودع فيها من قوى الحياة والفعل، فلا تعطل عن الفعل أبدا، ولو كانت نائمة فالعقل الباطن يعمل في المعقولات كما يعمل الحس الظاهر في المحسوسات، فإذا تلبس بالطاعة صار محله قابلا لآثار أوصاف جماله، جل وعلا، بالرحمة والمغفرة والإكرام.

وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى: فذلك من عطف السبب على مسبَّبه، فلا تكون طاعة بالإعطاء والتقوى، إلا فرعا عن التصديق بالحسنى، وهي: لا إله إلا الله، فهي أصل الحسنات الجامع، فلا صلاح لما بعدها إلا بها، فهي معدن صلاح النوايا الباطنة والأقوال والأعمال الظاهرة، فـ: "أل" في "الحسنى": عهدية فاتصالها باسم التفضيل مئنة من العهد، فتدل على معهود بعينه، هو: لا إله إلا الله، كما تقدم، وأرجع صاحب "الأضواء" رحمه الله، العهد إلى الجنة، على ما اطرد من طريقته الجامعة في تفسير التنزيل بالتنزيل، فبيان الحسنى في هذا السياق قد جاء في قوله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)، فالحسنى هي الجنة والزيادة هي النظر إلى وجهه، تبارك وتعالى، كما أثر عن جمع من السلف على رأسهم الصديق، رضي الله عنه، وهذا البيان، كما يقول صاحب "الأضواء" رحمه الله، صحيح من جهة دلالته على ما قبله فالجنة منتهى المتقين، ولا تكون تقوى، كما تقدم، إلا بصلاح الأصل بشهادة الحق، فيكون المنتهى دالا على المبتدى من هذا الوجه، فتفسير الحسنى بالجنة جامع لكل الأقوال، فيدل دلالة مطابقة مباشرة على الجنة، ويدل دلالة لزوم غير مباشرة على الأسباب التي توصل إليها من صلاح للأصل بالشهادة وصلاح للفرع بأجناس الطاعات الظاهرة والباطنة، فهي، كما تقدم، حقيقة التقوى.

ويقال من جهة أخرى بأن عطف التقوى على الإعطاء: من باب عطف العموم على الخصوص، فالإعطاء من صور التقوى، فـ: "اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير