تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بل متى وجد الوصف وجد الحكم، فمتى كان تعظيم لأمر الديانة، بتوحيد الرب، جل وعلا، فذلك حقه على عباده، كان الأمن والطمأنينة فذلك من فضله على عباده، فليس حقا واجبا عليه كحقه، تبارك وتعالى، عليهم، فإنه لا يجب للعبد على ربه، عز وجل، حق، وإنما أمره دائر بين الفضل بالعطاء والأمن أو العدل بالمنع والخوف. فالخطاب من جهة التعريض: يتوجه أول ما يتوجه إلى المخاطبين، لكونهم قد جحدوا الرسالة الخاتمة، فيكون في ضرب المثال لهم تخويف لهم بسلب نعمة الأمن التي جاء بيانها في سياق آخر من التنزيل: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ)، و: (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)، كما أشار إلى ذلك صاحب "الأضواء" رحمه الله، فذلك مزيد بيان لتلك النعمة الربانية السابغة على قريش أهل الحرم، وبعد النعمة الباطنة باستقرار النفوس فلا خوف ولا جزع، جاء بيان النعمة الظاهرة بصيغة المضارع: (يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ)، فذلك من تغيير السبك، كما أشار إلى ذلك أبو السعود رحمه الله، وهو جار على ما اطرد من بيان وجوه النعمة الربانية، فالمضارعة مئنة من التجدد والاستمرار، فكما أن مادة الأمن والطمأنينة في القلوب دائمة لا تنقطع، فكذلك مادة نماء الأبدان وحفظها دائمة لا تنقطع، فيأتيها الرزق الواسع من سائر الأجناس من كل مكان، فذلك آكد في تقرير النعمة الربانية فتعددت الأصناف وتعددت الجهات، فكان الأليق بهذه النعمة الربانية السابغة: إفراده، عز وجل، بالشكر بامتثال الشريعة الحاكمة، على ما اطرد مرارا من التلازم الوثيق بين أحكام الربوبية ولازمها من أحكام الألوهية، فانفراده، جل وعلا، بالربوبية، دليل وجوب إفراده، عز وجل، بالألوهية، ولكن جاء فعلهم على نقيض مراد الشارع، عز وجل، وعلى نقيض قياس العقل الذي يستقبح بما ركز فيه من قوى الفكر: جحود شكر المنعم، ولو كان مخلوقا نعمته دقيقة، فكيف بجحود شكر الرب، جل وعلا، المنفرد بربوبية الإنعام والعناية، فنعمه الشرعية والكونية قد بلغت حد التواتر فأفادت العلم الضروري بكمال ربوبيته، فلا ينكره إلا جاحد أو مسفسط ينكر العلوم البدهية، أو فاسد العقل مضطرب الفكر، وكل أولئك خلاف الأصل، فليسوا على حكم الشرع أو حتى قياس العقل الذي يستنكر، كما تقدم، جحود شكر المنعم، فهو أمر قد تواطأت عليه العقول الصريحة فلا تنكره إلا العقول السقيمة.

فجاء فعلهم: كفرا بأنعم الرب، جل وعلا، على جهة التعقيب، وذلك آكد في الذم، وآكد في لحوق العذاب بهم، فذلك من قبيل قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ)، وهو وجه تعريض آخر بكفار مكة بانطباق تلك الأوصاف عليهم، فقد كفروا نعمة الرب السابغة بجحود الرسالة الخاتمة، وجمعت النعمة جمع قلة، لبيان عظم الجرم وعظم العقوبة بإذاقتهم لباس الجوع والخوف للكفران ولو بنعمة أو نعم قليلة، فكيف بالكفران والجحود العام لنعم الرب ذي الجلال والإكرام تبارك وتعالى وذلك وجه لطيف أشار إليه أبو السعود رحمه الله.

ثم جاء التعقيب الثاني: (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ): تعقيبا عرفيا بالنظر إلى سنة الإمهال الكونية سنة: (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)، فلا تقع العقوبة فورا، وإنما التعقيب بالفاء بحسب السياق، كما أشار إلى ذلك ابن هشام، رحمه الله، في "شرح قطر الندى"، فالتعقيب في نحو: أكل فشبع مئنة من الفور، بخلاف التعقيب في نحو: دخل البصرة فبغداد فالعرف قد دل على وجود مهلة زمنية بينهما، فكذلك الشرع قد دل على وجود مهلة زمنية، فذلك مقتضى السنة الكونية، التي قد تطول حتى تبلغ أجيالا وقرونا، كما قد وقع لنوح عليه السلام، مع قومه، فأسماء الرب، جل وعلا، الحليم الذي يؤجل ليعود العاصي فقد سبق في علمه الأول أوبته ولو بعد حين، والصبور الذي يؤجل من قد سبق في علمه أنه قد بلغ الغاية من التمرد والعصيان فلا يرجع ولا يؤوب أبدا، تلك الأسماء الحسنى تظهر

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير