تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

آثارها في مثل هذه المواضع.

فأذاقها الله، عز وجل، لباس الجوع والخوف، فتلك عقوبة قد ترد مورد الاستئصال، وقد ترد مورد التذكير، كما في قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ).

واستعارة الذوق للإلباس على جهة الاستعارة التصريحية التبعية في الفعل: "أذاقها": مئنة من كمال الإحساس بالعذاب كما يحس الطاعم بمذاق الطعام على جهة التمكن قبل أن يستقر في جوفه، فضلا عن دلالة لفظ: "اللباس" على عموم العذاب وشدة ملابسته لصاحبه، كما يعم الثوب بدن اللابس ويباشره على وجه يقع به كمال الملابسة بينهما.

فالاستعارتان، كما ذكر صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، تهكميتان، فإن الضيف يكرم في الغالب بالطعام وبالخلع، فالأول يجد أثره في ذوق اللسان، والثاني يجد أثره بستر بدنه بأجمل الثياب، فإيرادهما في سياق العذاب فيه مزيد تهكم وسخرية بهم، وذلك أنكى في نفوسهم.

ومن قال بوقوع المجاز في لسان العرب، فإنه يرد الدلالة المعجمية الأولى للفظ الذوق إلى وجدان طعم الشيء باللسان، فيكون حقيقة في المطعوم، مجازا في أي محسوس آخر، فيكون الذوق حقيقة في الطعام مجازا في العذاب، ومن أنكر وقوع المجاز فإنه يرد الدلالة المعجمية الأولى للفظ الذوق إلى وجدان الشيء مطلقا دون تقييده بوجدان اللسان بذوق المطعوم، ومن ثم فإن السياق هو الذي يعين المراد، فإما أن يكون محسوسا باللسان كالطعام، وإما أن يكون محسوسا بآلات الحس الظاهر كالجلود والأبشار، فذلك من قبيل قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا)، إذ الجلد آلة المباشرة والحس، وإما أن يكون محسوسا بآلات الحس الباطن كسائر صور العذاب المعنوي فإنه قد يكون في كثير من الأحيان أشد مرارة وألما من العذاب الحسي الظاهر.

ووجدانه إما أن يكون معنويا أو حسيا والسياق هو الذي يعين المراد، وهو هنا شاهد لإرادة كلا النوعين: فقد وجدوا أثر العذاب المعنوي بالخوف، وأثر العذاب الحسي بالجوع، فذلك، كما تقدم، مئنة من كمال الإهانة بعموم العذاب للباطن والظاهر، فمن قال بوقوع المجاز في اللغة، فإن ذلك يجري عنده مجرى: جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز لدلالة السياق، أو دلالة المشترك اللفظي على كلا معنييه: الحقيقي الأصلي والمجازي الفرعي، ومن أنكر وقوع المجاز في اللغة، فإنه يرد الأمر، كما تقدم مرارا، إلى قرينة السياق التي دلت على إرادة كلا النوعين من العقوبة إمعانا في إهانة الكافر الجاحد لنعم الرب جل وعلا.

ثم جاء التعقيب بالسبب احترازا من نسبة الظلم إلى الرب، جل وعلا، فـ: (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)، وإنما ذلك العذاب بما كانوا، فالباء سببية، وفعل الكينونة جار على ما تقدم من دوام اتصافهم وملابستهم لأسباب وقوع العذاب فذلك آكد في بيان استحقاقهم له.

ثم جاء التعقيب بقوله تعالى: (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ):

فذلك آكد في إقامة الحجة عليهم فالرسول منهم لا من غيرهم، فليس من غير جنس البشر، بل ليس من غير قريش فالحجة في حقهم آكد: (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ)، والتعقيب بالفاءين جار على ما تقدم، فهو في الأول، على بابه، وفي الثاني عرفي بمقتضى سنة الإمهال الكونية، وأسند فعل الأخذ في معرض الإهانة، فذلك من وصف الجلال، أسند إلى العذاب إسناد المسبب إلى سببه، فلا يعارض ذلك إسناده إلى الرب، جل وعلا، في نحو قوله تعالى: (فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ)، فهو من وصف جلاله، فلا تعارض بين الإسنادين لاختلاف الجهة.

وإليه أشار ابن القيم رحمه الله، بقوله:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير