تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والوعد: مظنة الاشتراك اللفظي في هذا الموضع، فدلالته الظاهرة تشير إلى معنى الخير، كما أن دلالة الوعيد تشير إلى معنى الشر، فلما دل على الشر في وعد الشيطان، والخير في وعد الرحمن، جل وعلا، صار اللفظ مستعملا في الضدين في سياق واحد، فهو من الأضداد، على هذا الوجه، والأضداد من المشتركات اللفظية المجملة، بل هي من أشدها إجمالا، فلا يفصل النزاع في دلالتها إلا القرينة السياقية التي تعين مراد المتكلم، فإسناده إلى الشيطان قرينة من إرادة الشر، كما أن إسناده إلى الرحمن، عز وجل، قرينة من إرادة الخير، فزال الإجمال بقرينة السياق المبينة، فحصل البيان بالنظر في المسند إليه، فلما أسند إلى معدن الشر فكل شر منه على جهة التسبب لا الخلق، فالشر مخلوق للرب، جل وعلا، بإرادته الكونية وإن كان على خلاف مراده الشرعي الذي يحبه ويرضاه، وإنما خلقه لما يترتب عليه من الخير الآجل الذي لا يحصل إلا بوجوده، فتلك، كما تقدم في مواضع سابقة، من دلائل حكمة الرب، جل وعلا، فلما أسند إلى معدن الشر على هذا الوجه، كان ذلك دليلا لمن قال بالمجاز إذ استعار فعل الوعد لمعنى الشر، وهو كما تقدم بأصل وضعه أو دلالته المعجمية يدل على معنى الخير، ثم استعمل في الشطر الثاني من الآية على جهة الحقيقة، فذلك شاهد لمن قال بجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز في سياق واحد، فالقرينة قد عينت المراد من كليهما، فدلت على إرادة المجاز في وعد الشر، فهو محض وسواس وتزيين استعير له معنى الوعد باعتبار ما يتوهمه العاصي من لذة متوهمة في المعصية التي يزينها الشطان له، ودلت على إرادة الحقيقة في وعد الرحمن بالمغفرة والفضل، وأما من ينكر المجاز فإنه ينظر إلى الدلالة الحملية للسياق، فهي قرينة لفظية عينت المراد من الوعد في كلا الشطرين، بالنظر إلى المسند إليه، كما تقدم، فما يتبادر إلى الذهن من اللفظ إما أن يكون بالنظر إليه منفردا، فتلك دلالته المعجمية المطلقة، وهي لا تعين المراد منه تحديدا وإن دلت بمقتضى العرف اللغوي على معنى راجح، كلفظ الوعد فإنه عند إطلاقه يتبادر إلى الذهن منه معنى الخير، ولكن ذلك الظن الراجح لا يصير جزما إلا بالنظر إلى السياق الذي يعين المعنى المراد، فذلك النظر الثاني وهو: النظر إلى الدلالة التركيبية للسياق الذي يرد فيه اللفظ، فيصير نصا في معنى بعينه بعد أن كان ظاهرا محتملا، فقرينة السياق اللفظية قد رفعت الاحتمال ودلت على المعنى المراد جزما، وقد يقال من وجه آخر بأن في نسبة الوعد إلى الشيطان نوع تهكم، فتكون الاستعارة تهكمية من قبيل قوله تعالى: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، فاستعيرت البشرى لما يسوء صاحبها، فكذلك الحال في وعد الشيطان، فالوعد مظنة الخير، ونسبته إلى الشيطان مئنة من الشر بل أعظم شر، فذلك وجه التهكم إذ يدل اللفظ على ضد المعنى المتبادر إلى الذهن منه.

وعدة الشيطان قد اختلفت مواردها، فالسياق، كما تقدم، قيد فارق بين المعاني، فتعلقت هنا بالفقر ليحمل الإنسان على الإمساك والبخل، وتعلقت في نحو قوله تعالى: (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) بتغيير الخلق، وتعلقت بالوعد العام في نحو قوله تعالى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ)، فأطلق وعده عن كل قيد فهو الداعية إلى كل شر بتزيينه للكافر والعاصي، فيستر قبح دعواه بمعسول المعاني ومكذوب المباني. فيكون ذلك جاريا على ما اطرد من جمع أدلة الباب لتعيين مراد المتكلم، فالإجمال في موضع كما في آية إبراهيم قد ورد بيانه في آيات أخر، كما في آية النساء وآية البقرة، فتلك صور من وعده الكاذب، فذكرها ليس تخصيصا لعموم وعده، على ما تقدم في أكثر من موضع من امتناع تخصيص العام بذكر بعض أفراده في معرض التمثيل، بل يعد كل كافر وعاص بوعد يلائمه، فلكل وسواسه الذي يناسبه، فيعد أصحاب الشبهات بفاسد العلوم، ويعد أصحاب الشهوات بفاسد الأعمال، ولا يرد كيده إلا بالاستعانة بخالقه، عز وجل، وبذل السبب الدافع لوساوسه العلمية

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير