تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بنافع العلوم، ووساوسه العملية بصالح الأعمال، ولا يتلقى ذلك إلا من مشكاة النبوات فهي التي دلت على جهة الجزم والتفصيل على كل علم نافع وعمل صالح. فلا صلاح لدين أو دنيا، ولا نجاة في أولى أو آخرة إلا باقتفاء آثارها تصديقا وامتثالا.

ثم جاء التذييل بـ: وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، فالسعة تلائم عظم المغفرة والفضل، فللرب، جل وعلا، غاية الكمال من صفة السعة، فله سعة الذات وسعة الصفات، فذاته أعظم وأكبر وأكمل ذات، قد قامت بها صفات الجمال والجلال، فصفاته، هي الأخرى، قد بلغت غاية العظم والسعة، فرحمته وسعت كل شيء، فيكون إجمال وجوه السعة في هذا السياق لتعذر إحصائها فـ: "لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ"، قد ورد بيانه في نحو قوله تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) فتلك سعة صفة الرحمة، وهي من صفات الجمال، فرحمته العامة: رحمة الرحمن قد عمت كل الخلائق، مؤمنهم وكافرهم، بل رأس الكفر إبليس قد ناله منها حظ، فأنظر إلى يوم الوقت المعلوم، إذ كان له سابق عمل صالح أحبطه بكفره واستكباره، فاقتضى عدل الرب، جل وعلا، ورحمته، أن يجازى بذلك وإن أحبطه بكفره فالكفر يحبط كل عمل صالح: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، ومع ذلك نال إبليس من الرحمة العامة ما بقي به إلى يوم الوقت المعلوم، فطرد من رحمة الرحيم فهي خاصة بالمؤمنين وطرد معه كل كافر مارق من ذريته أو من ذرية آدم عليه السلام فذلك وجه تخصيص بالشرع لعموم الرحمة في هذه الآية، فعموم "شيء" محفوظ بالنظر إلى الرحمة العامة: الرحمة الكونية، رحمة الرحمن الذي نالت رحماته العامة كل الكائنات، كما تقدم، فنعمه الكونيات السابغات قد طالت كل مخلوق، فبها يستمتع المؤمن والكافر، بل للكافر منها نصيب أعظم بمقتضى سنة الإملاء، وسنة توفية الأجر في دار الابتلاء، فلا حظ لهم من الأجر في دار الجزاء إذ قد استوفوا أجورهم في الدار الأولى فتعجلوا نصيبهم لفساد تصورهم، ففسدت إراداتهم تبعا لذلك فظهر أثر ذلك الفساد لزوما على جوارحهم بإيثار اللذة العاجلة وإن أعقبها ألم عظيم وفساد كبير في الدنيا والدين، فلا هم حصلوا لذة عاجلة خالصة من الشوائب بل قد أعقبها ألم وفساد نرى منه صور القلق والاضطراب التي تعاني منها المجتمعات المترفة، فذلك ألم باطن ينسي صاحبه كل لذة ظاهرة، فضلا عن الألم الآجل في دار الجزاء فهو الذي ينسي على جهة الحقيقة كل لذة عرضت في دار الابتلاء، فكأنها لم تكن، وعموم الرحمة مخصوص بالنظر إلى الرحمة الشرعية: رحمة الرحيم فتلك لا تنال إلا عباده المؤمنين، فيكون ذلك، أيضا، من العام الذي أريد به الخصوص، لقرينة النصوص الدالة على اقتصار الرحمة الخاصة على المؤمنين، فمن ذلك قوله تعالى: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)، وفي المقابل: عقابه شديد وغضبه عظيم، وعذابه أليم فتلك من سعة صفات الجلال فآثارها قد ظهرت في انتصاره لرسله وأوليائه من أعدائه فهو الجبار المتكبر، العزيز ذو الانتقام، فله سعة الذات والصفات على هذا الوجه، وذلك محض تصور للمعاني دون إدراك للحقائق، فلا يدرك العقل مهما بلغت سعة مداركه طرفا من حقيقة كمال الرب، جل وعلا، ذاتا وصفات.

فذلك من التذييل المؤكد لمعنى ما تقدمه، والعلم مشعر بكمال إحاطة الرب، جل وعلا، ليحترز المنفقون بتحرير نواياهم، فلا يجدي صلاح صورة العمل الظاهر إن كان الدافع الباطن فاسدا.

والله أعلى وأعلم.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير