أصحاب رسول الله ?، وإنما أتى نُكْرَة هذا الحديث: أن الأعمش لم يقل حدثنا أبو صالح؟ فأحسب أنه أخذه عن غير ثقة! وأمسك عن ذكر الرجل، فصار الحديث ظاهر إسناده حسن، وكلامه منكر؛ لما فيه، ورسول الله ? كان يمدح هذا الرجل ويذكره بخير، وليس للحديث عندي أصل»! وكذا نقل الحافظ في الفتح [462/ 8]، كلام البزار باختصار، فقال: «قال البزار: هذا الحديث كلامه منكر؟ ولعل الأعمش أخذه من غير ثقة! ثم دلسه، فصار ظاهر سنده الصحة! وليس للحديث عندي أصل!».
قلتُ: وهذا إعلال غريب؟ وقد تعقبه الحافظ فقال: «وما أعله به ليس بقادح؛ لأن ابن سعد صرَّح في روايته بالتحديث بين الأعمش وأبي صالح، وأما رجاله فرجال الصحيح، ولما أخرجه أبو داود قال بعده: رواه حماد بن سلمة عن حميد ن ثابت [قلتُ: عند أبي داود: عن حميد أو ثابت؟ هكذا بالشك!] عن أبي المتوكل عن النبي ?، وهذه متابعة جيدة تُؤذن بأن للحديث أصلا، وغفل من جعل هذه الطريقة الثانية علة الطريق الأولى!» قلتُ: ثم ردَّ الحافظ استنكار البزار وغيره لمتن الحديث، فقال: «وأما استنكار البزار ما وقع في متنه، فمراده أنه مخالف للحديث الآتي قريبا من رواية أبي أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في «قصة الإفك» قالت: «فبلغ الأمر ذلك الرجل فقال: سبحان الله والله ما كشفت كنف أنثى قط» أي: ما جامعتها، و «الكنف» بفتحتين الثوب الساتر، ومنه قولهم: «أنت في كنف الله» أي: في ستره، والجمع بينه وبين حديث أبي سعيد على ما ذكر القرطبي: أن مراده بقوله: «ما كشفت كنف أنثى قط» أي: بزنا، قلت: وفيه نظر؛ لأن في رواية سعيد بن أبي هلال عن هشام بن عروة في قصة الإفك: أن الرجل الذي قيل فيه ما قيل لما بلغه الحديث قال: «والله ما أصبت امرأة قط حلالا ولا حراما» وفي حديث ابن عباس عند الطبراني: «وكان لا يقرب النساء» فالذي يظهر: أن مراده بالنفي المذكور ما قبل هذه القصة، ولا مانع أن يتزوج بعد ذلك، فهذا الجمع لا اعتراض عليه، إلا بما جاء عن ابن إسحاق أنه كان حصورا، لكنه لم يثبت، فلا يعارض الحديث الصحيح».
قلت: وهذا جواب حسن رائق، وهو حرام على غير الحافظ أن يرسمه بقلم! وقد رأيت الحافظ قد صحح سنده في «الإصابة» [3/ 441] لكنه قال: «ولكن يشكل عليه: أن عائشة قالت في حديث الإفك: «إن صفوان قال: والله ما كشفت كنف أنثى قط» وقد أورد هذا الإشكال قديما البخاري، ومال إلى تضعيف حديث أبي سعيد بذلك، ويمكن أن يجاب: بأنه تزوج بعد ذلك».
قلت: ولفظ عبارة البخاري في «تاريخه الأوسط» [1/ 386/طبعة دار الرشد]: «حَدَّثَنَا محمد , قال: حدثني، الأويسي، قال: حَدَّثَنَا إبراهيم بن سعد عن صالح، عنِ ابن شهاب قال عُروَة قالت عائشة: «والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل، تعني: صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني، ليقول: سبحان الله فو الذي نفسي بيده ما كشفت من كنف أنثى قط، قالت: ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله» هذا في قصة الأفك، وقال أبو عوانة وأبو حمزة عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد: جاءت امرأة صفوان بن المعطل النبي ? فقالت إن صفوان يضربني».
قلت: وكون البخاري يميل بصنيعه هذا إلى تضعييف حديث أبي سعيد = فيه نظر عندي؟ وزعم بعض أصحابنا أن أبا داود أيضًا قد أشار إلى إعلال حديث أبي سعيد بقوله عقب روايته: «رواه حماد يعني ابن سلمة عن حميد أو ثابت عن أبي المتوكل عن النبي ?»، وفي ذلك نظر أيضًا، قد شرحناه مع الذي قبله في «غرس الأشجار».
ولكني أعرفك هنا شيئًا: وهو أن الحافظ الناقد إذا وقف على حديث متنه منكر مع كون سنده ظاهره الصحة! تطلَّب له ما يصح إعلاله به من إرسال غامض! أو تدليس خفي! أو غير ذلك من وجوه العلل المعروفة؟ فإن عجز عن ذلك لكون إسناده ليس فيه مغمز! اندفع إلى إعلاله بما ظاهره ليس بعلة! كأن يزعم أنه قد أدْخِل على بعض رجاله من الثقات؟ أو دلسه من لم يُعرف بالتدليس؟ أو من لم يكن مشهورًا به، أو أنه تفرد به فلان الثقة ولم يتابع عليه؟
وهذا الخطب: يقع فيه جماعات من النقاد المتقدمين وبعض المتأخرين، ويكون الحامل لهم على ذلك: هو غرابة المتن ونكارته، ومصادمته لأصول ثابتة عند الناقد! كما فعل الحافظ البزار في حديث أبي سعيد هنا، فإنه استنكر متنه، فشرع في تطلب علة ظاهرة لإسناده فلم يجد؟ فاندفع إلى إعلاله بما ظاهره ليس بعلة على التحقيق؟ وهو قوله: «لعل الأعمش أخذه من غير ثقة فدلسه، فصار ظاهر سنده الصحة»! ولم يكن من عادة البزار أن يعل الأخبار بعدم تصريح الأعمش فيها بسماعه أصلا! لكنه يرى أن هذا الإعلال كافيًا في إسقاط الحديث أرضًا!
وأراه لو قيل له: بلى قد صرح الأعمش بسماعه من أبي صالح من رواية يحيى بن حماد الثقة المأمون عن أبي عوانة عنه، لَمَا كان يركن إلى هذا! ولا يراه شيئًا! بل وما كان يقعد عن الجزم بنكارة الحديث البتة! وإنما كان سيجول بنظره مرة أخرى في سند الحديث للوقوف على علة أخرى كيفما اتفق له؟
وقد مضى الجواب عن إعلاله الحديث سندًا ومتنًا بما لا مزيد عليه، وبما يدفع النكارة رأسًا.
###
¥