والبيان الحِجاجي في إطار هذا التوضيح يرتبط بالصنفين الأخيرين، باعتبار أنّ الكلام معهما يستدعي توظيف تقنيات الحِجاج التي تدفع الشكّ أو الجحود أو التردّد لدى المتلقين.
أمّا فيما يخص البيان الحجاجي المرتبط بالرسالة اللغويّة فيتعلّق بالآليات اللغويّة التي قد يوظِّفها المخاطب في الكلام من أجل تحقيق الغاية من الحكم المبسوط فيه تصديقاً أو تكذيباً، إنكاراً أو إقراراً، أو غير ذلك. وقد وضَّح ذلك السكاكي أكثر في باب "الإسناد الخبري" حيث قال: "أما الاعتبار الراجع إلى الحكم في التركيب من حيث هو حكم من غير التعرض لكونه لغويّاً أو عقليّاً فإنّ ذلك وظيفة بيانيّة، فككون التركيب تارة غير مكرر ومجرّداً من لام الابتداء وإن المشبّهة والقسم ولامه ونوني التوكيد كنحو "عرفت عرفت"، و"لزيد عارف"، و"إنّ زيداً عارف"، و"إنّ زيداً لعارف" و"والله لقد عرفت أو لأعرفنّ" في الإثبات وفي النفي كون التركيب غير مكرر ومقصوراً على كلمة النفي مرّة، كنحو "ليس زيد منطلقاً"، وغير مقصور على كلمة النفي كنحو "ليس زيد بمنطلق"، و"ما إن يقوم زيد"، و"والله ما زيد قائماً"، فهذه ترجع إلى نفس الإسناد الخبري" (27).
وضمن هذا التوضيح نشير إلى أنّ الحكم المبسوط في الاستعمال اللغوي يرتبط تجريداً أو تأكيداً بحسب ما تقتضيه الأصناف الثلاثة التي أشرنا إليها من قبل، وطالما أنّ البيان الحِجاجي يستدعي "التأثير"، والذي يعتبر اللغة من المنظور الحديث فعلاً وحِجاجاً، وليست نقلاً للمعلومات وإخباراً عنها (28)، فإنّه من الضروري توظيف الآليات اللغويّة التي تحقّق ذلك، وهو الجوهر الذي تبحث فيه "نظريّة الحِجاج اللغويّة".
وقد يكون من المفيد في إطار هذا التوضيح استلهام نموذج "ديكرو O.Dicrot"، وبالخصوص ورد في كتاب "السلميّات الحجاجيّة"، والذي استعرض فيه مبادئ نظريّة الحِجاج اللغويّة ومنطلقاتها، كما قدّم فيه قواعد السلّم الحجاجي. و"ينبغي الإشارة في هذا الإطار إلى أنّ الظواهر الحِجاجيّة اللغويّة التي تم التركيز عليها، واسترعت اهتمام "ديكرو Dicrot" هي الروابط الحجاجيّة النحويّة؛ مثل الواو، الفاء، ثم، والروابط التداوليّة الحجاجيّة؛ نحو بل، لكن، حتى، لاسيّما، فمثلاً إذا كان الواو داخل نصّ ما يحقِّق الانسجام النحوي، فإن "لكن" يحقِّق الانسجام التداولي والحِجاجي. كما أنّ الدليل الذي يرد بعد "لكن" يكون أقوى من الدليل الذي يرد قبلها، وتكون له الغلبة بحيث يتمكّن من توجيه القول بمجمله" (29). فلعلّ أهم شيء يمكن ملاحظته من هذا التوضيح هو ارتهان الحِجاج اللغوي بروابط حجاجيّة في التركيب اللغوي، تسهم في ضبط العلاقات التي يمكن ملاحظاتها بين الحجّة والنتيجة.
وقد ذكر "ديكرو Dicrot" أيضاً أنّ قواعد السلم الحِجاجي تنبنى على مفهوم السلّم الحجاجي وقوانينه. و"تعريف "السلّم" بأنّه مجموعة غير فارغة من الأقوال مزوّدة بعلاقة ترتيبيّة ومستوفيّة للشرطين التاليين:
ـ أنّ كلّ قول يقع في مرتبة ما من السلّم يلزم عنه ما يقع تحته، بحيث تلزم عن القول الموجود في الطرف الأعلى جميع الأقوال الأخرى.
ـ وأنّ كل قول في السلّم كان دليلاً على مدلول معيّن كان ما يعلوه مرتبة دليلاً أقوى" (30). وضمن هذا الطرح نلاحظ أنّ قواعد السلّم الحجاجي تهدف في أساسها إلى تأكيد نتيجة معيّنة، تسبقها معطيات أو بالأحرى مقدَّمات، تسهم بطريقة مضبوطة في التقديم في تحقيق القضّية المطروحة أو دحضها.
5 ـ البيان الحجاجي في القرآن الكريم:
قبل المضي في تناول البيان الحجاجي في القرآن الكريم من الضروري أن نرتكز على المعطيات الأساسيّة التي يتأسّس عليها الخطاب القرآني، والتي جعلته خطاباً حِجاجيّاً بدرجة أولى؛ لأنّه كما قلنا جاء ليبسط للعالمين عقيدة عالميّة، تقتضي بتوظيف الآليات الحجاجيّة التي تحتوي العقل الإنساني وتقنعه، وهذه المعطيات هي:
أ ـ الخطاب القرآني يسعى إلى "الإقناع"، وفي رحاب هذا الطرح فإنّه يأخذ بعين الاعتبار في كلّ القضايا المعطاة كلّ ما يمكن أن يعتقده المتلقِّي منذ البداية. ولذا فإنّه إذا ما حاولنا الغوص في آيات القرآن الكريم وآلياته التعبيريّة وأساليبه البلاغيّة وطروحاته المنطقيّة من قياس وبرهان وتمثيل فإنّنا نبحث في آليات الإقناع المنتهجة فيه.
¥