تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[الاعتراف للمحسن]

ـ[محمد بن إبراهيم الحمد]ــــــــ[10 Jan 2010, 04:51 م]ـ

[الاعتراف للمحسن]

وقفت على كلام عظيم للعلامة ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير 29/ 65 عند قوله _تعالى_: [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ].

قال -رحمه الله-: "واعلم أن الخُلُقَ العظيم الذي هو أعلى الخلق الحسن هو التدين ومعرفة الحقائق، وحلم النفس، والعدل، والصبر على المتاعب، والاعتراف للمحسن، والتواضع، والزهد، والعفة، والعفو، والجود، والحياء، والشجاعة، وحسن السمت، والتؤدة، والوقار، والرحمة، وحسن المعاملة والمعاشرة" إلخ.

قرأت هذا الكلام العظيم، ولفت نظري فيه كلمةٌ ربما نَمُرَّ عليها مرور الكرام، ألا وهي قوله: "والاعتراف للمحسن".

فقد عدَّ -رحمه الله- الاعتراف للمحسن من جملة الأخلاق العظيمة؛ حيث أدخله في مصافِّ الحلم، والصبر، والعدل، والعفة، والجود، والحياء، والتواضع ونحوها.

وربما يستغرب ذلك بعضُ الناس، والحقيقةُ أن الاعتراف للمحسن يستحق أن يكون في مقدمة تلك الأخلاق؛ لأنه يجمع أطرافها، بل هو ثمرة لها؛ إذ هو أثر من آثار العدل، والجود، والتواضع، وحسن المعاملة، ونحوها.

وإلا فكم ضاعت حقوق بسبب جحود الجاحدين، ونكران الظالمين.

وكم من مشروعاتٍ وئِدت، ومواهبَ عُطِّلت، وفرصٍ ضاعت بسبب ذلك.

ثم إنك تعرف أخلاق الإنسان _من عدل، وصبر، وعفة_ من خلال اعترافه لغيره بالإحسان.

وما عبر الإنسان عن فضل نفسه ... بمثل اعتقاد الفضل في كل فاضل

وليس من الإنصاف أن يدفع الفتى ... يدَ النقص عنه بانتقاص الأفاضل

فالنوابغ، والبررة، والمحسنون عموماً يحتاجون إلى توجيه مستمر، وإلى تشجيع، ورعاية، وصيانة، وإلى أن تهيَّأ لهم مقوماتُ النبوغ والألمعية.

فإذا نشأ الألمعي النابغة في مجتمع يَقْدُرُهُ قَدْرَه، ويعترف له بفضله، وينظر إليه بعين الإكبار والتَّجِلَّة _ هَفَتْ نفسُه لكل فضيلة، ورَنَتْ عينه إلى كل بطولة، فيزداد بذلك جدَّاً في الطلب، وسعياً إلى أقصى درجات الكمال.

ولهذا يكثر النبوغ في البلدان التي تعرف أقدار أهل الإحسان في أي ميدان، ويندر ذلك في البلدان التي يقل فيها عرفانُ قَدْرِ أولئك.

ولهذا فلا عجب أن يظهر النابغون في العلم والأدب، والشجاعة في بلاد الأندلس؛ لأن أهلها يعظمون من عظمه علمه، ويرفعون من رفعه أدبه.

وكذلك سيرتهم في رجال الحرب، يقدمون من قَدَّمَتْهُ شجاعتُه، وعظمت في الحروب مكايده.

فهذه السيرة ترفع من شأن الناس، وتدفع إلى المعالي والكمالات.

يقول العلامة محمد كرد علي -رحمه الله-: "طُبِعْتُ على تقدير أعمال الرجال والتنويه بالعاملين من النابتة، وربما زدتهم من الثناء؛ لأبعث هممهم، كنت أراني مَسوْقاً إلى هذا الخلق؛ لأني كنت في مقامٍ يقتضي الأخذ بأيدي المقصرين حتى ينشطوا.

وكان بعضهم ينكر عليَّ صنيعي هذا، وآخر يعدُّه مما ينافي الاعتدالَ، والاعتدالُ يوجب عندهم أن توزن أفعال الناشئة بالمثاقيل وإلا عدّ المشجع غالياً، وربما حسبوه مصانعاً.

ولا أدري أيَّ الخلقين أجدى على المجتمع التنشيط أم التثبيط؟

أنا وفريق كبير من إخواني درجنا على أن الخير في مدح العاملين؛ ليزيدوا نشطة، وغيرنا آثر الاعتدال، فقطع بعضهم في منتصف الطريق بما أوهن من عزائمهم حتى لم يكد يظهر منهم رجل يعدُّ شيئاً.

وبهذه الطريقة دفعت الشباب إلى التعلم، وأشعت الغيرة في نفوسهم، وقوَّيت المنافسة بينهم.

أما صنف المعتدلين فقد أخفقوا هم ومَنْ تطوعوا لإضعاف هممهم.

ما أُشَبِّهُ مَنْ يحتقر عمل العاملين إلا برجل قليل البضاعة يخشى عليها البوار إذا ترك المجال لمن يشاركونه في الاتجار بمثلها، وأَقْبِحْ بذلك مِنْ خلق فيه ضِيْقُ عينٍ، وضِيْقُ عَطَن"ا_هـ.

ثم إن الإنسان إذا اعترف لأهل الفضل بفضلهم، وأثنى عليهم بما فيهم _ كان جديراً بألا يغمط حقه.

هذا وإن مما ارتسم في ذهني من تلك المعاني ما لاحظته قبل ما يزيد على خمس عشرة سنة؛ إذ كنت في زيارة لأحد العلماء، وهو في مرضه الذي مات فيه؛ حيث زرته في أحد المستشفيات، وكان أبناؤه من أهل العلم والفضل ومن أهل الدرجات العلمية العالية.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير