[الاجترار]
ـ[محمد بن إبراهيم الحمد]ــــــــ[13 Jan 2010, 09:57 ص]ـ
[الاجترار]
الاجترار من خصائص بعض الدواب؛ فهي التي تأكل الطعام، ثم تجتره بعد فترة.
أما الآدمي فإنه يأكل مقدار ما يشبعه، ثم إذا احتاج إلى الطعام أكل مرة أخرى، وهكذا دون أن يجتر الطعام؛ إذ إن ذلك ليس من خصائصه، ولم يُوْدَعْ فيه تلك الغريزة.
ولكنه يجتر اجتراراً من نوع آخر، ألا وهو الاجترار الذهني.
والناس في ذلك طبقات؛ فمنهم من يعود عليه اجتراره بالضرر، ومنهم من يعود عليه بالنفع.
فهناك من هو مولع باجترار المآسي، والأخطاء، والمصائب، والأحداث الأليمة؛ فتراه دائماً يكررها على نفسه، وعلى من حوله.
فإذا حدثت له _على سبيل المثال_ مشكلة ثم انتهت بحل من الحلول، وأغلق بابها_ لم يكتفِ بذلك، بل تراه دائم التذكير بها خصوصاً إذا حدثت مشكلة أخرى.
واللائق بمثل هذه الأحوال أن إذا حدثت مشكلة جديدة أن يُسْعى في حلها بعيداً عن أجواء المشكلة الأولى؛ حتى تهدأ النفوس، وتتهيأ لقبول الحلول طالما أن المشكلة الجديدة ليس لها ارتباط بالأولى.
بل اللائق أن يُبْتعد عن كل ما يكدر الصفو من العتاب القاسي، أو المنة في العفو إذا حصل؛ كما قال الله _عز وجل_: [فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ].
والصفح الجميل: هو الصفح بلا عتاب؛ فهذا يوسف _عليه السلام_ لمَّا مَكَّنَهُ الله في الأرض، وأذعن له إخوته، واعترفوا بخطئهم، ورأوا كيف آثره الله عليهم _ لم يجترَّ المآسيَ الأولى، وإنما أشار إلى مصائبه السابقة _من الإلقاء في الجب، ومشاهدة مكر إخوته_ بقوله: [مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي].
فكلمة [بَعْدِ] اقتضت _كما يقول العلامة ابن عاشور_ أن ذلك شيء انقضى أثره، وقد ألمَّ به إجمالاً؛ اقتصاراً على شكر النعمة، وإعراضاً عن التذكير بتلك الحوادث المُكَدِّرة للصلة بينه وبين إخوته؛ فَمَرَّ بها مرور الكرام، وباعَدَها عنهم بقدر الإمكان؛ إذ ناطها بنزغ الشيطان.
ومن أنواع الاجترار المُضرِّ تذكُّرُ الإخفاقات؛ فمن الناس مَنْ إذا همَّ بعمل تَذَكَّر أنه قد أخفق في يوم من الأيام في كذا وكذا، فتنصرف نفسه، وتفتر همته عن المضي قدماً في ذلك السبيل؛ خوفاً من الإخفاق.
ومن ذلك تذكُّر الإنسانِ المصائبَ التي حلت به، فتراه يكثر من تردادها على ذهنه؛ فكلما هَمَّ بفرح هجمت عليه تلك الخواطر الرديئة هجوم الليل إذا يغشى؛ فما تلبث أن تقلب سروره إلى جحيم مُلْهِبٍ، على حد قول القائل:
أحب ليالي الهجر لا فرحاً بها ... عسى الدهر يأتي بعدها بوصال
وأكره أيام الوصال لأنني ... أرى كل وصل محكماً بزوال
ومن هذا القبيلِ المبالغةُ في اجترار بعض صور النجاح؛ فقد يقدر لبعض الناس أن ينجح في عمل ما، فتراه يُكثر من ذكر ذلك النجاح بمناسبة وبغير مناسبة، إما استعلاءً على الحاضرين، أو تفاخراً بذلك، أو اكتفاءً به عن السعي لنجاحات أخرى، أو تسويغاً لإخفاقات حصلت له.
وقد يُغتفر للإنسان أن يستدعي نجاحاته إذا هُضم، أو نيل منه، أو صُدِعَت قناةُ عزته، أو نحو ذلك من الاعتبارات الصحيحة؛ فلا بأس حينئذٍ أن يذكر شيئاً مما يرفع من قدره، ويعيد إليه قيمته وثقته بنفسه.
ويغتفر _له ذلك_ إذا وجد مَنْ يُثَبِّطه عن عمل من الأعمال؛ أو وجد من نفسه إحباطاً وتثاقلاً عن الإقدام؛ خوف الإخفاق؛ فلا بأس _والحالة هذه_ أن يتذكر أو يذكر بعض نجاحاته؛ ليقوده ذلك إلى الإقدام، ويمنعه من التردد والإحجام.
ومن أنواع الاجترار اجترار الإحسان إلى الناس؛ إما على سبيل الفخر، أو على سبيل المنة؛ فذلك مذموم ممقوت وربما يكون محبطاً للعمل.
وقد لا يلام الإنسان على ذلك، إذا كان وراء ذلك مصلحة كاستنهاض الهمم دون ذكر الأسماء، أو لم يكن هناك ضرر كالإخبار المحض.
أما خلاف ذلك فإنه يحسن بالإنسان تجنبُ المنة، ونسيانُ إحسانه إلى الناس.
ومن أنواع الاجترار اجترارُ معايب الناس، وتذكر أخطائهم، وتعييرهم بذلك، إلى غير ذلك من صور الاجترار المثبطة عن العمل، الجالبة للهم، المفرقة للقلوب، المورثة للبطالة واليأس.
والمقصود _ههنا_ التمثيلُ لا الحصر، والتنبيهُ على تلك الظاهرة التي تنال نيلها من فئام من الناس.
ـ[عدنان أجانة]ــــــــ[14 Jan 2010, 11:27 م]ـ
كلام جميل ورائع، وجزاك الله خيرا كفاء ما ذكرت.
وتحضرني كلمة في هذا الباب، رويت عن الإمام المحدث، أيوب السختياني البصري. رحمه الله. وذكرها الحافظ ابن عبد البر في جامع بيان العلم. نقلا عن حماد بن زيد قال: قيل لأيوب: ما لك لا تنظر في الرأي؟ فقال أيوب: قيل للحمار: ما لك لا تجتر؟ قال: أكره مضغ الباطل.