تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[مثال على تحامل ابن المنير الأشعري على الزمخشري المعتزلي في حاشيته على الكشاف]

ـ[محمد براء]ــــــــ[07 Feb 2010, 06:18 م]ـ

بسم الله الرحمن الرحيم

قال العلامة محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى في رسالته أليس الصبح بقريب ص181 - 182 في كلامه عن أسباب تأخر علم الكلام: " رابعها: التنابز وإلزام لوازم المذاهب، وذلك إباية الرجوع إلى الحق، إذ في طبع الإنسان كراهية الرجوع إلى من يجترىء عليه، والخلاف بين العقلاء نادر لو راموا التقارب، ولو اهتدى الناس بهدي السلف لقالوا قولهم: " لا نكفر أحداً من أهل القبلة ".

اتخذ المرتابون في العقائد سلاحهم عند الضعف في تأييد مذاهبهم التكفير سلاحاً، والأخذ بلوازم المذاهب، يدفعون بذلك الذين يخشون قوة جدلهم، أما السلف العلماء فقد كانوا يحبون أن يسألهم المسترشد أو يجادلهم الضال، ليزيلوا عنه ما عساه أن يلم به من الشبه، وما كانوا يتحاشون من موافقة بعض الفرق المخالفة متى اتحد طريق النظر، أما المتأخرون وخصوصاً الأشاعرة، فقد أكثروا من الأخذ باللوازم، وفتشوا لكل طائفة عن مقالة ألزموها بها الكفر، حتى كفروا المعتزلة الذين هم أقرب الناس وفاقاً معهم .. ".

قال مقيده عفا الله عنه: تحامل الأشعرية على خصومهم، سواء كانوا من المعتزلة أم من غيرهم، أمر يدركه كل من طالع بحوثهم في علم الكلام.

وقد وقفت على كلام للشيخ أحمد بن المنير رحمه الله تعالى، في حاشيته على الكشاف للزمخشري، فيه بغي وتحامل ظاهر على الزمخشري المعتزلي.

قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى ?وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ?:: " ?وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ ?: وما صحّ منَّا صحةً تدعو إليها الحكمة أن نعذِّب قوماً إلا بعد أن ? نَبْعَثَ ? إليهم ? رَسُولًا ? فتلزَمُهُم الحجةُ.

فإن قلتَ: الحجة لازمةٌ لهم قبل بعثة الرُّسل، لأنّ معهم أدلةَ العقل التي بها يُعرف الله، وقد أغفلُوا النظرَ وهم متمكِّنُون منه، واستيجابُهُم العذابَ لإغفالهم النظر فيما معهم، وكفرهم لذلك، لا لإغفال الشرائع التي لا سبيل إليها إلا بالتوقيف، والعملُ بها لا يصح إلا بعد الايمان.

قلت: بعثة الرسل من جملة التنبيه على النظر والإيقاظِ من رقدة الغفلةِ، لئلا يقُولوا:كُنَّا غافلين، فلولا بعثت إلينا رسولاً يُنبِّهُنا على النظر في أدلَّةِ العقلِ " الكشاف (2/ 653).

قال المقبلي في العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ ص194 مُعقِّبَاً على كلامه: " وإذا كان لا يليقُ بالحكيم ولا يلائمُ شأنَهُ التعذيبُ قبل البعثة، فهو معنى أن الحجة لا تقومُ قبل الشرع، إذ لو قامتْ حينئذٍ لكان التعذيبُ مُلائِمَاً ".

قلت: مذهب الزمخشري كما ترى أن تعذيب الناس قبل إرسال الرسول غير واقع لأنه مناف للحكمة، وأن الحجة التامة لا تكون إلا بإرسال الرسل حيث قال في موضع آخر: " فكان إرسالُ الرسل إزاحة للعلَّةِ وتتميماً لإلزامِ الحُجَّةِ ".

وهذا مطابق لاعتقاد أهل السنة الذي حكاه عنهم الإمام أبو قاسم اللالكائي رحمه الله تعالى في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، وعليه أدلة كثيرة منها هذه الآية.

وهو أيضاً مطابق لاعتقاد الأشعرية في المسألة – مع اختلافهم في علة عدم التعذيب -.

والمعتزلة في هذه المسألة على قولين: فمن لم يجوز منهم العفو عقلاً وهم شرذمة من البغدادية – كما قال المقبلي في العلم ص192 - 193 – قال إن التعذيب ثابت قبل إرسال الرسل، أما سائرهم ممن قال بتجويز العفو لم يقولوا بذلك.

وشرح هذا: أن المعتزلة المجوزين للعفو قالوا: " نحن نمنع العفو بعدَ البعثة إذا أوعد الربُّ على الفعلِ، لأنَّ العذابَ قد صارَ واجباً بخبره ومُستَحَقَّاً بارتكاب القبيح، وهو سُبحانه لم يحصل منهُ إيعادٌ قبل البعثة فلا يقبُحُ العفو، لأنه لا يستلزم خُلفاً في الخبر وإنما غايتُه تركُ حقٍّ له قد وجبَ قبل البعثَةِ ".

قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (2/ 402) بعد نقل كلامهم هذا: " وهذا حسنٌ، والتحقيق في هذا: أن سببَ العقاب قائمٌ قبل البعثة، ولكن لا يلزمُ من وجود سبب العذاب حصولُهُ لأنَّ هذا السَّبَبَ قد نصب الله تعالى له شَرطَاً وهو بعثةُ الرُّسُلِ وانتفاءُ التعذيب قبل البعثة هو لانتفاءِ شرطه لا لعدم سَبَبِه ومُقتضِيه.

وهذا فصلُ الخِطَاب في هذا المقام وبه يزولُ كلُّ إشكالٍ في المسألة، وينقشِعُ غيمُهَا، ويُسفِرُ صُبحُهَا، والله الموفِّقُ للصواب ".

وبهذا يتبين لك أن المعتزلة ليسوا جميعاً قائلين بالتعذيب قبل إرسال الرسل – كما شهره الأشعرية عنهم -، والزمخشري من هؤلاء القائلين بعدم وقوع التعذيب.

فالحاصل: أن ابن المنير لما وصل إلى هذا الموضع عقب على كلام الزمخشري ببيان عقيدة الأشعرية في المسألة ثم قال: " هذه الآية التي يروم الزمخشري تحريفها فتعتاص عليه وتسد طرق الحيل بين يديه، لأنه الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ".

وأقول هنا: ها هو كلام الزمخشري أمامك نقلته بحروفه، فأين هو التحريف؟! بل هو البغي والتحامل على الخصم بما ليس فيه.

ولعل السبب في كلام ابن المنير هذا أنه لم يعرف من أقوال المعتزلة إلا القول بلزوم التعذيب، إذ مشايخه الأشعرية لا ينقلون عنهم إلا هذا القول حتى يصح لهم الاحتجاج بهذه الآية، فظن أن الزمخشري – لأنه معتزلي – يقول به، فعقب بما عقب به، دون تأمل لكلامه الذي أمامه، وقد صدق المقبلي حين قال في الأشعرية: " وهُم في كل المذاهب يجعلُون نقلَ أسلافهم حُجَّةً على خَصمِهِم في أنَّهُ يقولُ القولَ مع أنه يتبرَّأ مِنهُ، وهو مثلُ ما يُقالُ في الحِمصِيَّاتِ: شَهِدَ عليك من هُوَ أعدَلُ منكَ! " العلم الشامخ ص162 - 163.

والله تعالى أعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير