ورد على لسانه في قوله تعالى: (قَالَ رَبُّكُمْ رَبُّ السَمَوَاتِ والأَرْضِ الذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ((48).
ولكي يبطل دعواهم أكثر عمد إبراهيم (إلى محاججتهم بطريقة علمية أكثر إثارة لهم؛ إذ قام بتكسير الأصنام بكاملها، وترك كبيرها شاهداً على ضلالهم، لذلك قالوا: (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ((49)؟ فأجاب إبراهيم (بما سيكون دليله الأقوى عليهم، فقال بالاعتماد دائماً على رابط حجاجي تداولي وهو الأداة "بل": (بَلْ فَعَلَهُ كَبيرُهُمْ هَذَا فاسْأَلوهُ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُون ((50). يقول الزمخشري: "هذا من معاريض الكلام ولطائف هذا النوع، لا يتغلغل فيها إلاَّ أذهان الراضّة من علماء المعاني، والقول فيه أن قصد إبراهيم صلوات الله عليه لم يكن إلى أن نسيب الفعل الصادر عنه إلى الصنم، وإنّما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريفي يبلِّغ فيه غرضه من إلزامهم الحجّة وتكبيتهم. وهذا كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتاباً بخط رشيق وأنت شهير بحسن الخط أأنت كتبت هذا؟ وصاحبك أمِّيٌ لا يحسن الخط ولا يقدر إلاَّ على خرمشة فاسدة، فقلت له بل كتبته أنت، كأنّ قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به، لا نفيه عنك وإثباته للأمي أو المخرمش" (51).
فإبراهيم (من خلال الآية المذكورة يدعو قومه في استهزاء وسخريّة إلى سؤال آلهتهم عمن فعل بهم هذا، لكّنهم يجيبون بما هو تأكيد وإقرار للحجّة التي قدّمها إبراهيم (فقالوا: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاَءِ يَنْطِقُونَ ((52). ليتساءل إبراهيم (في حضرتهم كيف أنّهم يعبدون ما لا ينفعهم أو يضرّهم، ويدعوهم في الوقت نفسه إلى التعقّل، قال تعالى: (قَالَ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمُ. أُفٍّ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ((53).
ولكن نجد قومه يتجاوزون هذه الحجج ويتعنتون ويعاقبون إبراهيم (بأشدِّ العقوبات، بإلقائه في النَّار، لتظهر بعد ذلك قدرة الله تعالى التي هي آية أخرى على عظمته وقوّته. ولكنّ قومه بقوا على كفرهم متعنِّتين.
ومعظم الأساليب الاستفهاميّة التي وَظِّفت في سورة الأنبياء كانت عبارة عن استفهام إنكاري وتوبيخي؛ أي إنكار فعل المخاطبين وتوبيخهم على موقفهم المتناقض مع الحقيقة المتداولة لديهم، ومع العقل، نوضِّح ذلك أكثر من خلال النماذج الآتية:
ـ قال تعالى: (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ((54)؟
ـ قال تعالى: (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤمنُون ((55)؟
ـ قال تعالى: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابَاً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُون ((56)؟
ـ قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الذينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رِتْقَاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنِ المَاءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمَنُونَ ((57)؟
ـ قال عزّ وجلّ: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَر مَنْ قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَأِنْ مِتَّ فَهُمُ الخَالدُونَ ((58)؟
ـ قال جلّ شأنه: (أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِ الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمْ الغَالِبُونَ ((59)؟
ـ قال تعالى: (وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ له مُنْكِرُون ((60)؟
فكل آية من هذه الآيات تمثِّل بنية حِجاجّية لقضيّة معيّنة، فالآية الأولى حجّة على هؤلاء الذين يتّهمون محمد (بالسِّحر، ولكّنهم يأتونه ويستمعون إليه! والنتيجة التي يمكن استنباطها من خلال هذه الحجّة هي أنّهم يعلمون أنّ القرآن الكريم ليس سحراً، وأنّ الرسول (أبعد الناس عنه.
¥