إن أي كاتب إذا أردنا أن نحكم على آرائه أو نستوضحها لا يكتفي بمجرد قراءتنا وفهمنا لبعض ما كتب وإنما يكون هذا من خلال أسلوب علمي محدد يحقق مبدأ "التثبت والتبين".
1. إما أن يكون بمناقشته فيما كتب واستيضاح ما يقصد.
2. وإذا كان غير موجود، فننظر إلى سلوكه وآرائه العملية، لنفهم في ضوئها مقاصده ومعتقداته.
3. وكذلك أن ننظر في كلماته كلها ولا نجتزأ منها سطورًا.
4. وإذا كان الكاتب قد سطَّر آراء ثم رجع عنها بعد ذلك وأعلن عدم رضائه، فلا ينبغي أن نحاسبه عليها بعد ذلك، مثلما فعل الشهيد عندما أعلن عن عدم رضائه عن كتابه "العدالة الاجتماعية في الإسلام" وأن به بعض الأخطاء وسيحاول إعادة كتابته، وكان هذا الكتاب في بداية توجهه الإسلامي وقبل التزامه بجماعة الإخوان المسلمين.
5. كذلك علينا ألا نحاسبه فيما فهمه بعض الناس عندما طالعوا كتاباته وإنما ماذا كان يقصد وما هو فهمه؟
إن الشهيد سيد قطب- رحمه الله- من مواليد (9/ 10/ 1906م) أي يسبق مولد الإمام الشهيد حسن البنا بأيام قليلة (أقل من شهر)، وكان رحمه الله أديبًا بليغًا، وناقدًا أدبيًّا متميزًا شهد له بذلك مَن عاصروه، وقد تميَّز في عصرٍ كثُر فيه الفطاحل من الأدباء والشعراء.
وقد التزم بجماعة الإخوان المسلمين أواخر عام 1951 واستشهد يوم الإثنين 29/ 8/1966 قبل بزوغ الفجر (صدر الحكم عليه 21/ 8/1966م)، ونفذ بعد أسبوع أي قارب على الخمسةَ عشر عامًا داخل صفوف الإخوان، قضى منها داخل السجون أكثر من أحد عشر عامًا وتولى بعد عام 1951 مسئولية قسم نشر الدعوة، وهو أحد أهم أقسام الجماعة التي تتعامل مع المجتمع.
فهل كان الشهيد يكفر الناس حكامًا ومحكومين؟ وهل كان يصف هذه المجتمعات بالجاهلية، أي بالكفر والخروج عن الدين؟ وهل كان ينتهج منهج العنف والانعزال؟ إننا إذا طبقنا المنهج العلمي في الدراسة والتقييم لوصلنا إلى نتيجة قطعية بالنفي لهذه الاتهامات.
لقد كان الخطأ في حقيقته عند هؤلاء الذين أرادوا أن يفهموا فهمًا معينًا ويحملوا باقي كلامه على هذا الفهم رغم أن حياته العملية وأقواله وكتاباته ومَن عاشوا بالقرب منه تقطع بابتعاده عن هذه المفاهيم.
أو نجد البعض يقفون عند بعض الألفاظ ذات الدلالة الأدبية ويجردونها عن سياقها ولا ينظرون إلى أن الكاتب كان أديبًا ولا يقصد المعنى الذي ذهبوا إليه مطلقًا.
ولا يعنينا هنا أن فلانًا من العلماء أو المشاهير أصدر هذه الأحكام والصفات على ما كتبه الشهيد، فالبحث العلمي يقوم على الأدلة والبراهين وعلى القواعد العلمية للتثبت والحكم، وبالنسبة لما سطَّره الشهيد من كتاباتٍ فإن طبيعته الأدبية وبلاغته كانت ملازمة له.
وهو نفسه عندما كتب الظلال، قال في مقدمته أنه لا يكتب تفسيرًا للقرآن، فهذا له قواعده وأسلوبه، ولكن خواطر ومعانٍ يستشعرها عند معايشته وتلاوته لآيات الذكر الحكيم.
ومن المعروف عن الشهيد أنه كان رجّاعًا، إذا راجعه أحد وناقشه، وكان يعرض ما يكتب قبل طباعته على الكثير من إخوانه ويستمع إلى نصائحهم.
ولكي نفهم ما كتب، نرى أنه لم يخرج عما كتبه من كان قبله من علماء الإسلام في الأمة، فهذه كتابات ابن القيم وابن تيمية وغيرها كان فيها لفظ الجاهلية والحملة الشديدة عمن انحرفوا عن أحكام الإسلام.
كان مقصده بكلمات الجاهلية: القيم والمفاهيم، وليس الأشخاص أو الناس في المجتمع، لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر- رضي الله عنه- عندما أخطأ مرةً "إنك امرؤٌ فيك جاهلية".
وما ذكره هو من لفظ الحاكمية وضحه في أماكن أخرى، حيث يقصد بها تأكيد المرجعية لشرع الله وضرورة تطبيقه، وما ذكره عن انتساب الناس للإسلام بحكم شهادة الميلاد هو كلام عام ذكره غيره من العلماء الذين سبقوه ولم يتهمهم أحد بادعاء التكفير.
كان رحمه الله يستخدم الكلمات البليغة الأدبية لتوضيح رأيه وللدفاع عن الإسلام، ولم يكن بصدد إصدار أحكام، فهذه لها أصول ولها أهلها من علماء الشريعة، ولم يدع هو ذلك في يومٍ من الأيام.
وحول حديثه عن الجهاد، لم يخرج عن قول علماء الأمة عن شرح نوعي الجهاد: "جهاد الدفع" و"جهاد الطلب" أي الغزو في سبيل الله ولم يدع أنه سيتكلم عن الأحكام الفقهية والشروط الشرعية المتعقلة بذلك وإنما كان يتحدث عن المبدأ والمفهوم.
المناخ والمرحلة التي واجهها الشهيد
¥