خامساً: بالنسبة لمن زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم رجلٌ غارق في حُبِّ النساء، وأنه مطواع لِسَوْقِ غرائزه له، أقول لهم: تزوج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وهو ابن خمسٍ وعشرين سنة، وكانت ثيباً في الأربعين من عمرها، ولم يَعْرِف رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء قبلها أبداً، ولم يَمَسَّ لحمه لحم امرأة لا تحل له، فبقي مع خديجة رضي الله عنها خمساً وعشرين سنة، دون أن يتزوج عليها قبل نبوته -وهو من أجلِّ قريش نسباً ومكانة- ولا بعدها، فلو كان شهوانيّاً لما أنفق شبابه على امرأة تزيد عنه في العمر هذه المدة الطويلة دون أن يتزوج غيرها، ولا شيء يمنعه من ذلك.
ثم يتزوج من سودة بنت زمعة رضي الله عنها، تلك المرأة الثَّيِّب التي لم تَشْتَهِر بصباها وجمالها، إلى أن تزوج عائشة رضي الله عنها وهي الزوجة البِكْر الوحيدة من بين زوجاته صلى الله عليه وسلم، تزوجها وقد دخل في السنة الثالثة والخمسين من عمره، ثم بعدها بنى بباقي زوجاته رضي الله عنهن، ولكل زواج حكاية عجيبة وهدف نبيل.
أين يكون اتباع الشهوة والجري وراءها في زوجات تزوجهن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السِّنِّ المتأخرة، ومن نساء ثيبات إلا واحدة، ولم يعرف عنهن في غالبهن جمال وشباب؟! ويظهر ذلك من خلال أحاديث وروايات فيها إشارات لما قلته؛ ليس من الأدب ذكرها في معرض الكلام هنا!
أين يكون اتباع الشهوة والجري وراءها في شخص جمع بين هذا العدد من النسوة -اللاتي عرفنا من حالهن- قبل لحاقه بربه بثماني سنين، جمع فيها بين جهد الدعوة والجهاد وتنظيم أمور الدولة والعبادة و .. ؟! لا أدري أين تكون الشهوة بين هذا الكَمِّ الكبير من المسؤوليات والأعباء!
أين يكون اتباع الشهوة والجري وراءها في حياة من إذا نام أَثَّرَ الحَصِير في جنبه؟! ويعيش وزوجاته في بيوت لا توقد فيها النار شهرين، لا يجد أهلها طعاماً غير التمر والماء، ويأتي ضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيذهب النبي العظيم صلى الله عليه وسلم إلى بيوت نسائه فلا يجد ما يطعم به ضيفه؛ فَيُحَوِّلُهُ إلى أحد أصحابه (7)!
قال العقاد: "لقد أقام زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في بيت لا يجدن فيه من الرَّغَد ما يجده الزوجات في بيوت الكثيرين من الرجال، مسلمين كانوا أو مشركين. وعلى هذا الشرف الذي لا يدانيه عند المرأة المسلمة شرف الملكات أو الأميرات، شَقَّت عليهن شدَّة العيش في بيت لا يُصِبْن فيه من الطعام والزينة فوق الكفاف، والقناعة بأيسر اليسير، فاتفقن على مفاتحته في الأمر، واجتمعن يسألنه المزيد من النفقة، وهي موفورة لديه لو شاء أن يزيد في حصته من الفيء، فلا يعترضه أحد ولا يحاسبه عليه.
إلا أن الرجل المُحَكََّم في الأنفس والأموال -سيد الجزيرة العربية- لم يستطع أن يزيدهن على نصيبه ونصيبهن من الطعام والزينة، فأمهلهن شهراً وخيَّرهن بعده أن يفارقنه، ولهن منه حق المرأة المفارقة من المتاع والحسنى، أو يَقْبَلْنَ ما قَبِلَه لنفسه معهن من ذلك العيش الكفاف.
ومن وقف على أسباب التنزيل، وليس بينها ما هو أشهر في كتب التفسير من أسباب نزول هذه الآيات من سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً. وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ الله أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} (8) [الأحزاب: 28 - 29]، تبيّن له أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يلتفت إلى الشهوة؛ فضلاً عن الجري وراءها.
وأَقول للمبشرين المحترفين ولعاً بالتفتيش عن خفايا السيرة النبوية: خليق أن يُطَّلَع على تفاصيل هذا الحادث بحذافيره؛ لأنه ورد في القرآن الكريم خاصّاً بالمسألة التي يتكالب المبشرون المحترفون على استقصاء أخبارها، وإحصاء شواردها، وهي مسألة الزواج وتعدد الزوجات" (9).
¥