وبعد سماع هذين الجنديين كلام ذلك الرجل الدليل، سلك المحظوظ السعيد الطريق الايمن، ومضى في دربه حاملاً على ظهره وكتفه رطلاً من الاثقال الا ان قلبه وروحه قد تخلّصا من آلاف الارطال من ثقل المنَّة والخوف.
بينما الرجل الشقي المنكود الذي آثر ترك الجندية ولم يرد الانتظام والالتزام، سلك سبيل الشمال، فمع أن جسمه قد تخلص من ثقل رطل فقد ظل قلبه يرزح تحت آلاف الارطال من المنَّ والاذى، وانسحقت روحه تحت مخاوف لا يحصرها الحد. فمضى في سبيله مستجدياً كل شخص، وجلاً مرتعشاً من كل شئ، خائفاً من كل حادثة، الى أن بلغ المحل المقصود فلاقى هناك جزاء فراره وعصيانه.
أما المسافر المتوجه نحو الطريق الايمن ـ ذلك المحب لنظام الجندية والمحافظ على حقيبته وسلاحه ـ فقد سار منطلقاً مرتاح القلب مطمئن الوجدان من دون أن يلتفت الى منَّة أحد أو يطمع فيها أو يخاف من أحد .. الى أن بلغ المدينة المقصودة وهنالك وجد ثوابَه اللائق به كأي جندي شريف أنجز مهمته بالحسنى.
فيا أيتها النفس السادرة السارحة!
اعلمي
أن ذينك المسافرين؛ أحدهما أولئك المستسلمون المطيعون للقانون الإلهي، والآخر هم العصاة المتبعون للاهواء ..
وأما ذلك الطريق فهو طريق الحياة الذي يأتي من عالم الارواح ويمر من القبر المؤدي الى عالم الآخرة ..
وأما تلك الحقيبة والسلاح فهما العبادة والتقوى، فمهما يكن للعبادة من حمل ثقيل ظاهراً إلا أن لها في معناها راحة وخفة عظيمتين لا توصفان، ذلك لان العابد يقول في صلاته:] لا إله إلا الله [أي لا خالق ولا رازق إلاّ هو، النفع والضر بيده، وانه حكيم لا يعمل عبثاً كما أنه رحيم واسع الرحمة والاحسان.
فالمؤمن يعتقد بما يقول لذا يجد في كل شئ باباً ينفتح الى خزائن الرحمة الإلهية، فيطرقه بالدعاء، ويرى أن كل شئ مسخَّر لأمر ربه، فيلتجىء اليه بالتضرع. ويتحصَّن أمام كل مصيبة مستنداً الى التوكل، فيمنحه ايمانه هذا الامان التام والاطمئنان الكامل.
نعم! أن منبع الشجاعة ككل الحسنات الحقيقية هو الايمان والعبودية، وأن منبع الجبُن ككل السيئات هو الضلالة والسفاهة.
فلو أصبحت الكرة الارضية قنبلة مُدمِّرة وانفجرت، فلربما لا تخيف عابداً لله ذا قلب منوَّر، بل قد ينظر اليها أنها خارقة من خوارق القدرة الصمدانية، ويتملاها باعجاب ومتعة، بينما الفاسق ذو القلب الميت ولو كان فيلسوفاً ـ ممن يُعدّ ذا عقل راجح ـ اذا رأى في الفضاء نجماً مذنباً يعتوره الخوف ويرتعش هلعاً ويتساءل بقلق: ألا يمكن لهذا النجم أن يرتطم بأرضنا؟ فيتردى في وادي الاوهام (لقد ارتعد الامريكان يوماً من نجم مذنب ظهر في السماء حتى هجر الكثيرون مساكنهم أثناء ساعات الليل).
نعم! رغم أن حاجات الانسان تمتد الى ما لا نهاية له من الاشياء، فرأس ماله في حُكم المعدوم.
ورغم أنه معرَّض الى ما لانهاية له من المصائب فاقتداره كذلك في حكم لا شئ،
اذ ان مدى دائرتي رأس ماله واقتداره بقدر ما تصل اليه يده، بينما دوائر آماله ورغائبه وآلامه وبلاياه واسعة سعة مد البصر والخيال.
فما أحوج روح البشر العاجزة الضعيفة الفقيرة الى حقائق العبادة والتوكل،
والى التوحيد والاستسلام!
وما أعظم ما ينال منها من ربح وسعادة ونعمة!
فمن لم يفقد بصره كلياً يرى ذلك ويدركه.
اذ من المعلوم أن الطريق غير الضار يُرجَّح على الطريق الضار حتى لو كان النفع فيه احتمالاً واحداً من عشرة احتمالات. علماً أن مسألتنا هذه، طريق العبادة، فمع كونه عديم الضرر، واحتمال نفعه تسعة من عشرة، فانه يعطينا كنزاً للسعادة الابدية، بينما طريق الفسق والسفاهة ـ باعتراف الفاسق نفسه ـ فمع كونه عديم النفع فانه سبب الشقاء والهلاك الابديين، مع يقين للخسران وانعدام الخير بنسبة تسعة من عشرة ... وهذا الامر ثابت بشهادة ما لا يحصى من (اهل الاختصاص والاثبات) بدرجة التواتر والاجماع. وهو يقين جازم في ضوء أخبار أهل الذوق والكشف.
نحصل من هذا:
أن سعادة الدنيا أيضاً ـ كالآخرة ـ هي في العبادة وفي الجندية الخالصة لله.
فعلينا اذن أن نردد دائماً:
الحمد لله على الطاعة والتوفيق ..
وأن نشكره سبحانه وتعالى على أننا مسلمون.
ـ[خلوصي]ــــــــ[18 Apr 2010, 09:26 م]ـ
البرمجة الرابعة
الكلمة الرابعة
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ
((الصلاة عماد الدين)) (1)
¥