تأسيسا على ما سبق نجد القراء يشترطون في قبول القراءة أن تكون غير مخالفة لما استقر عند ائمة الإقراء قراءة صحيحة سليمة من الغلط و الشذوذ.
وهنا نتساءل: الشذوذ عن ماذا؟ إنه الشذوذ عن العرف القرائي، حيث استقرت القراءة بأن أخذها جيل عن جيل إلى رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ.
إن المسألة عندي شبيهة بموقف المحدثين و الفقهاء من الحديث المرسل، فبينما يعتبره المحدثون حديثا ضعيفا باعتبارها لا تتحقق فيه شروط الصحة بفقدانه شرط اتصال السند. نجد قطاعا عريضا من الفقهاء يعتبرونه حديثا صحيحا قد يرقى إلى مرتبة المتواتر، باعتبار المُرسل لا يُرسله إلا بعد أن يكون قد رواه عن أئمة عدول ثقاة ضابطين كثر، يطول الأمر بذكرهم، فلما اطمأن لصحته أرسله.
إن الحرص على التوثيق حرص على سلامة النصوص الشرعية من التحريف بالزيادة أو النقصان، أو التغيير و التبديل، أو غيرها من صنوف التحريف التي تلحق ضررا بالغا بالمتلقين، ونخص بالذكر منهم المؤمنين، لأنهم يتعبدون الله تعالى بما تقرره النصوص الشرعية. فضلا على أن الحكم التوقيفي و الاجتهادي مرتبط من جهة بوثوقية النص، ومن جهة أخرى بدلالته. إن الأمر باختصار شديد يتعلق بالتوثيق و الفهم.
إن خصوصية القراءات القرآنية تحتم علينا عدم إسقاط أحكام المحدثين و مقاييسهم على القراء و القراءات جملة و تفصيلا. مما يلزمنا برد الأمور إلى نصابها بالاحتكام إلى قواعد علم القراءات ومقرراته التي لا يمكن أن ينضبط إلا بها. يقول الونشريسي (ت 914 هـ) ـ رحمه الله ـ: " لا يعرف القراءة ووجوهها إلا أهلها، وغيرهم لا يعرفون أصلها، فضلا عن توافرها. وسبيل ذلك سبيل أصحاب الصنائع و الآلات يعرفونها، فتواترها عندهم خاص بهم، وهكذا أرباب العلوم في اصطلاحات لهم تتواتر عندهم " (المعيار المعرب و الجامع المغرب عن فتاوي أهل إفريقية و الأندلس و المغرب، ج 12، ص 118).
فلا تناقض ـ في اعتقادي ـ بين تعامل القراء مع المجروحين من قبل علماء الحديث، لأن المحدثين يتكلمون بمقاييسهم، و يحتكمون إلى قواعدهم، و كل ذلك يخص مجال الحديث، و نخل المرويات، ليصطفوا منها أحاديث نبوية شريفة، ترقى من حيث الوثوق لأن تكون المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي.
ومن ثم فإنه يمكن أن نجد من القراء من هو في عداد المجروحين عند المحدثين، ورغم ذلك تؤخذ عنه القراءة، لأن مجال القراءة يعتمد مقياسا ثلاثي الأبعاد:
أ. السند.
ب. الرسم.
ت. العربية.
فضلا عن العرف القرائي المتمثل في ما اجتمعت عليه العامة، كما بين مكي بن أبي طالب (ت 437 هـ) في كتابه الإبانة عن معاني القراءات: " إن الصفات المعتبرة في المختار من القراءات أن تكون القراءة قد اجتمعت عليها العامة " فمكي ـ رحمه الله ـ يرد الأمر إلى الاتباع من غير نظر في شروط و لا في أركان، و السبع عنده و عند غيره من القراءات المختارة. و الصواب في القراءة اتباع الجماعة و تقليد الأمة الماضية، و لاأجد حجة عن الحق، و الحق هو الحجة على الخلق " (المعيار 12/ 121).
ويؤكد ذلك علم الدين السخاوي (ت 643 هـ) في كتابه جمال القراء وكمال الإقراء في رده على انتقاد محمد بن جرير الطبري لقراءة ابن عامر: " وأما ما رواه عن ابن عامر أنه قال: هذه حروف أهل الشام التي يقرؤونها فليس في ذلك ما يناقض رواية هشام عن عراك، بل في ذلك تأييد لروايته وتقوية لها، إذ كان أهل الشام قد أجمعوا عليها، و لا يلزمه أن يذكر الإسناد في كل وقت، و من أين للطبري أنه كان يقول ذلك في كل وقت و لا يذكر إسنادا " (جمال القراء ج 2، ص 435).
بل إن ما ينبغي الإشارة إليه أنه داخل مجال الحديث نجد العلماء يجرحون بعض العلماء الأفذاذ في مراحل متقدمة من حياتهم، باعتبار المسألة نسبية و ليست على إطلاقها كما يعتقد الغر الذي لم يتمرس بصناعة القوم. وهنا نتساءل من من الناس ـ إلا من رحم الله ـ من يظل ضابطا متقنا دون أن تنوء به نوائب الدهر، وتعود عليه عوادي الزمان؟. وكل ذلك يقوم شهادا على حراسة العلماء للدين، ونزاهتهم العلمية، ودقتهم في التوثيق، وصدقهم و أمانتهم وإخلاصهم. وما دفعهم إلى ذلك إلا إيمانهم بأن الله تكفل بحفظ الدين عامة و كتابه خاصة (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا
¥