إن ابن مجاهد حدد شروط العالم الحجة ـ كما في (1) ـ أما الثلاثة فاقدوا الأهلية وصفهم ابن مجاهد بدقة أولهم:
السليقي: (الذي يعرب ولا يلحن ولا علم له بغير ذلك) فهذا ليس إماما ولا يصلح لذلك لأنه يقرأ عن سليقة لا عن علم، فهو لا يعرف دقائق قراءة نفسه معرفة علمية بقواعدها ومصطلحاتها ولذا لا يستطيع أن يعلم غيره ولا أن ينكشف خطأه ويعيّنه ولا أن يقومه، وقصاري ما يستفاد منه أن يقلد.
أما الثاني: المقلد الفاقد للأمرين السليقة والعلم، وهذا أخطرهم ولذلك أطال ابن مجاهد في أمره، لأنه قد يتلقي الصواب ثم ينسي أو يشتبه عليه ما تلقاه أداء أوحفظا، وهو ليس عنده علم يفطن به إلي حاله، فيقرأ أو يلحن ويتوهم أنه علي وصواب ويتمسك به ويكابر ويجادل ناسبا إياه إلي مصدر التلقي.
والثالث: (ومنهم من يعرب قراءته ويبصر المعاني ويعرف اللغات ولا علم له بالقراءات واختلاف الناس) والصنف الثالث هم علماء العربية العالمون باللغة والمعاني، ولكنهم لا علم لهم بضوابط مجال القراءات ـ مثل: صحة السند وغيرها من الشروط ـ فمثل هؤلاء قد يبتكر الواحد منهم قراءة لا سند،أو يفضل قراءة علي أخري ناظرا إلي المعني أو التركيب صارفا النظر عن صحة السند وقوته، فهذا أيضا لا يجوز أن يكون إماما ولا أن يُتلقي عنه لأن غفلته عن ضوابط مجال القراءات تؤدي إلي تغييره القرآن.
ونخلص من ذلك كله إلي أن التلقي الذي ينبغي التمسك به والاحتجاج به هو التلقي عن دراسة واعية شاملة توصل إلي دقائق الأمر بأن يكون الدارس عالما بكل جوانب المسألة المدروسة لغة ورواية فاقِهاً لأقوال الأئمة فيها، خبيرا بالكيفيات التي يؤدي بها الصوت المفرد أو النسق الصوتي، وبذلك تكون له أهلية لمراجعة شيخه للتحقق من كيفية أدائه وهنا يكون تلقيه حجة.
أما الذين يتلَّقون بلا دراسة ولا معرفة بجوانب ما تلقَّوه ودقائقه، فلا حجة في تلقيهم ولا في تقليدهم أداء مشايخهم، بل ولا يُؤْمَنون في درجة إحكامهم لهذا التقليد فلا تقبل شهادتهم بالنسبة لأداء مشايخهم."أ. هـ صـ 11: 17 بتصرف واختصار.
وقال في موضع آخر:" وما قاله ابن مجاهد ـ شيخ الصنعة ـ ذكر معناه الداني فقال:" وقراء القرآن متفاضلون في العلم بالتجويد والمعرفة بالتحقيق فمنهم من يعلم ذلك قياسا وتمييزا وهو الحاذق النبيه ومنهم من يعلمه سماعا وتقليدا وهو الغبي الفَهِه " ثم قال د / جبل وأضاف الداني إضافة قيمة فقال:" إن العلم فطنة ودراية آكد منه سماعا ورواية، فللدراية ضبطها ونظمها وللرواية تقلها وتعلمها " والداني محق تماما في إعلاء شأن الدراية لأنها الأرسخ أساسا ويمكن الرجوع إليها كلما احتيج إلي ذلك. ونقل د/ جبل قول مكي وأبي شامة ثم ما تبناه علماء التجويد." صـ19:18
قال المرعشي رحمه الله " وتجويد القرءان قد يحصّله الطالب بمشافهة الشيخ الموجود بدون معرفة مسائل هذا العلم، بل المشافهة هي العمدة في تحصيله، لكنّ بذلك العلم يسهل الأخذ بالمشافهة، ويزيد به المهارة ويُصانُ به المأخوذ عن طريان الشكّ والتحريف كما صرّح به في الرعاية. انتهى كلامه رحمه الله" جهد المقل ص110.
وهذا كلام نفيس ياليت بعض إخواننا يحاولوا أن يحسِّنوا نطقهم ويصرفوا همهم لكيفية النطق الصحيح بدلا من أن يكون همه الحصول علي الإجازة وفقط، ومن ثم يتربَّح بسنده فلا بد أن يأتي اليوم الذي سينكشف فيه علي حقيقته وقد رأينا ذلك بأعيننا في بعض الشيوخ، وقد قال لي الشيخ الجوهري في أثناء قراءتي لرواية حفص وكنت أتعسف في القراءة خشية الخطأ ـ في بداية طلبي قال: سيتخلي عنك التعسف في وقت من الأوقات" وهذا كلام نفيس لم أشعر بقيمته إلا بعد تركي للتكلف، فإن المتكلف في القراءة سيصيبه الإرهاق في وقت ما ومن ثَمّ ستضعف قراءته وسيظهر أمره أمام الناس، ولذلك ننصح إخواننا بالقراءة علي جمع من الشيوخ، فما يتساهل فيه أحدهم يستدركه الآخر.والله أعلم
وبعد الخوض في شروط حجية التلقي نتحدث عن كيفية التلقي والعرض علي الشيخ ..
¥