تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لا شكّ أنّ السلف أعلم وأدرى من الخلف، ولمّا طال الزمن قلّ العلم والضبط ونقصت الهمم واختلط نطق العرب بنطق العجم، فتفطّن العلماء لذلك فدوّنوا كلّ ما يتعلّق بالقرءان من رسم وضبط ونطق وقراءات وكذا الحديث وعلوم العربية وغير ذلك ثمّ قعدوا القواعد في علوم الحديث والفقه واللغة وعلوم القرءان لأنّهم لولم يفعلوا ذلك لذهب العلم كلّه. فعلوم الحديث وضعت لصيانة الحديث النبوي، وعلوم اللغة وضعت صيانة للنطق العربيّ الفصيح وهذا يقال في الفقه وعلوم القرءان وغير ذلك. إذن فكلّما طال الزمان يقلّ العلم وكلّما قلّ العلم كثر الخلاف وكلّما كثر الخلاف كثرت الحاجة إلى التدوين وجمع العلم على شكل نصوص ثمّ ضبط هذه النصوص بضوابط وقواعد تسير عليها الأجيال الآتية.

لا يمكن اليوم لفقيه أن يتعامل مع النصوص الشرعية دون الاعتماد على القواعد الأصولية والقواعد الفقهية وأقوال الأئمة كأصحاب المذاهب وغيرهم ولايمكن لأيّ رجل أن يحكم على صحة حديث و ضعفه إلاّ بدراسة قواعد مصطلح الحديث وقواعد الجرح والتعديل والمعرفة التامة بأحوال الرواة وأقوال المتقدمين في الراوي أو الحديث نفسه، ولا يمكن اليوم لأيّ مقرئ بارع أن يستغني عن قواعد علم التجويد وأصول القراءات وأقوال المتقدمين الذين نقلوا لنا هذا العلم ولا يستطيع أن يستحضر القراءات وقواعدها وأصولها إلاّ بحفظ المتون ودراستها. إذن فالاستغناء عن النص كان في وقت صلاح الألسنة وبلوع العلم أقصى مراتبه بخلاف اليوم فلا يمكن الاستغناء عن القواعد والنصوص إذ هي التراث الوحيد الذي يعبّر عن الكيفية الصحيحة التي قرأ بها أئمّتنا.

هل يمكننا اليوم أن نثبت صحة الوجه لغة بشعر من أشعار المتأخرين؟ بل توقف ذلك في حوالي سنة 150 للهجرة عند دخول الأعاجم للإسلام وانتشار اللحن، وما نسمعه اليوم من الفصاحة والبلاغة إلا بسبب ما دوّنه أئمّة اللغة كسيبويه وغيره رحمه الله تعالى.

وأمّا المشافهة فلا يمكن الاعتماد عليها فيما يقع الخلاف فيه إذ جميع الأطراف يستدلّ بها على صحة الوجه الذي يأخذ به، والحقّ لا يتعدّد إلاّ إذا كان الخلاف ثابتاً عند القدامى فيكون الأخذ بالوجهين على التخيير إن تواترا جميعاً مع تقديم أحد الوجهين إمّا شهرة أو قياساً أو ترجيح أحد الوجهين إن كان المرجوح لم يبلغ حدّ القبول المعتبر عند الأئمّة. وأمّا الخلاف الذي لم يرد عند القدامى فيلزم من ذلك أنّ أحد الوجهين مردود لعدم ثبوته نصاً، فحينئذ لا بدّ من الرجوع إلى نصوص الأئمّة للفصل بين الوجهين فنأخذ بما هو مؤيّد بالنصّ.

وهل يمكننا أن نقطع بأنّ ما نسمعة اليوم من التلاوات للقرءان الكريم هي مطابقة لقراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم وقراءة الصحابة والأئمّة من بعدهم خاصّة فيما يخالف نصوص الأئمّة القدامى؟ ما هو الهدف من السند إذن؟ ما هو السبب الذي حمل القدامى على التدوين؟ لا شك أنّ الجواب هو قراءة القرءان كما أنزل. وهل عندما نستغني نحن عن نصوص القدامى سنصل إلى هذا الهدف؟ المسألة ليست مسألة تطوّر اللغات وتطوّر بعض الحروف كما يقول علماء الأصوات فالمسألة هي مسألة المتابعة إذ القراءة سنة يأخذها الآخر عن الأوّل، فالآخر مقيّد بالأوّل لا يخرج عنه لأنّه متّبع له. فمخالفة النصوص هو خروج الآخر عن الأوّل وهو ضدّ المتابعة إذ المتابعة تستلزم موافقة المتبوع وليس هناك وسيلة أخرى تُثبت موافقة المتبوع إلاّ بموافقة نصوصه التي تركها للخلف، وأسانيد الخلف تنصبّ على الأئمّة الأوائل الذين نقلوا لنا هذا العلم وهم الأولى بالاتباع لأنّهم أدرى وأقرب سنداً إلى النبيّ عليه الصلاة والسلام من المتأخرين.

وكلنا يعلم أنّ البحث في مسألة معيّنة في أيّ علم من العلوم الشرعية يرتكز على جمع النصوص الواردة في الباب وهذه النصوص إمّا أن تكون آيات أو أحاديث مرفوعة أو موقوفة أو مقطوعة بالإضافة إلى أقوال الأئمة الذين عرفوا بالإمامة في ذلك العلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير