ثانياً: تدارك العلماء هذا النقص بالتدوين والتأليف.
ثالثاً: صيانة المشافهة بالتدوين والتأليف فكانت هذه التآليف سببا لصيانة القرءان والقراءات من اللحن والخطأ واندثار الكثير من القراءات.
رابعاً: التأليف والتدوين قد عوّض النقص الذي اعترى القراءة في ذلك الزمان.
لا يمكننا أن نتصوّر بقاء التلاوة الصحيحة للقرءان الكريم و القراءات العشر بالكيفية الصحيحة بمجرّد المشافهة دون الاعتماد على النصوص وهذا ما فعله ابن الجزري في كتابه النشر حيث قام بحصر المصادر التي اعتمد عليها وقام بعزو كل وجه وطريق إلى مصدره ولم يكتف بالسند والمشافهة، فكأنّما أراد أن يثبت صحة تلك الأوجه وأن يوثّق ما تلقاه عن مشايخه بتلك النصوص. فكان النص ملازماً للتلقي لا ينفك عنه،وكيف ينفك عنه إذا كان النص مصدره التلقي. فإن وقع تعارض بين النص والتلقي فإنّ الخطأ يكون في التلقي بلا ريب لأنّ النصّ لا يتغيّر بخلاف التلقي فإنّه قد يتغيّر لما سبق من أقوال الأئمة.
وعلى ما سبق أقول: إن كانت المشافهة قد اعترتها شيء من النقص والإهمال في وقت الداني ومكي القيسي والقرطبي وغيرهم ألاّ يكون ذلك في زماننا من باب أولي؟ إن كانت هذه النصوص سبباً في صيانة القرءان من اللحن في ذلك الوقت ألا يكون ذلك في وقتنا من باب أولي؟ إن كان في ذلك الزمان أئمّة مثل الداني والقيسي والقرطبي ومع ذلك دوّن هذا العلم ليكون عمدة للمتأخرين ألا يكون الاعتماد على هذه النصوص في وقتنا هذا من باب أولي مع انعدام إمثال هؤلاء؟
ولأجل ذلك لا يمكن الاعتماد على المشافهة لوحدها للحكم على صحة وجه من الأوجه إلاّ إذا كان موافقاً للنصّ لما سبق من البيان قال المرعشي رحمه الله تعالى " وتجويد القرءان قد يحصّله الطالب بمشافهة الشيخ الموجود بدون معرفة مسائل هذا العلم، بل المشافهة هي العمدة في تحصيله، لكنّ بذلك العلم يسهل الأخذ بالمشافهة، ويزيد به المهارة ويُصانُ به المأخوذ عن طريان الشكّ والتحريف كما صرّح به في الرعاية." جهد المقل ص110.
وللأسف فإنّ الكثير مشايخ الإقراء في هذا الزمان يعتمدون على المشافهة ولو كان على حساب النصّ والدليل فتراهم يجيبون بالتلقي في كلّ سؤال يُطرح عليهم فصارت المشافهة سقفاً يختبأ وراءه الجميع. قال مكيّ القيسي في الرعاية " القرآء يتفاضلون في العلم بالتجويد: فمنهم من يعلمُه رواية وقياساً وتمييزاً فذلك الحاذق الفطن. ومنهم من يعرفه سماعاً وتقليداً، فذلك الوهن الضعيف. لا يلبثُ أن يشكّ ويدخله التحريف والتصحيف إذ لم يبن على أصل ولا نقل عن فهم. فنقل القرءان فطنة ودرايةً أحسن منه سماعاً وروايةً. فالرواية لها نقلها، والدراية لها ضبطها وعلمها. فإذا اجتمع للمقرئ النقل والفطنة والدراية وجبت له الإمامة وصحّت عليه القراءة. (الرعاية ص90).
قال أبو عمرو الداني:" وقرّاء القرءان متفاضلون في العلم بالتجويد والمعرفة بالتحقيق، فمنهم من يعلم ذلك قياساً وتمييزاً، وهو الحاذق النبيه، ومنهم من يعلمُهُ سماعاً وتقليداً، وهو الغبيّ الفهيه، والعلم فطنةً ودرايةً آكذ منه سماعاً وروايةً. وللدراية ضبطها وعلمها، وللرواية نقلها وتعلّمها، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم." التحديد ص67.
أقول: وهذا يدلّ على أفضلية علم الدراية وهو العلم بنصوص أهل الأداء على علم الرواية وهو المشافهة من المشايخ وذلك عند قولهم رحمهم الله " فنقل القرءان فطنةً ودراية أحسن منه سماعاً ورواية ".
قال المرعشي رحمه الله تعالى " .... لكن لما طالت سلسلة الأداء تخلل أشياء من التحريفات في أداء أكثر شيوخ الأداء، والشيخ الماهرالجامع بين الرواية والدراية المتفطن لدقائق الخلل في المخارج والصفات أعزّ من الكبريت الأحمر، فوجب علينا أن لا نعتمد على أداء شيوخنا كلّ الاعتماد، بل نتأمّل فيما أودعه العلماء في كتبهم من بيان مسائل هذا الفنّ، ونفيس ما سمعناه من الشيوخ على ما أودع في الكتب، فما وافق فهو الحقّ، وما خالفه فالحقّ ما في الكتب " انظر بيان جهد المقلّ.
والاعتماد على المشافهة المجردة تؤدي إلى أمور سلبية والتي تتمثل عموماً فيما يلي:
أوّلاً: التقليد الذي يجعل التلميذ لا يخرج عن ما تلقاه عن شيخه ولو كان مجانباً للصواب.
ثانياً: عدم القدرة على التمييز بين الوجه الصحيح من غيره.
ثالثاً: اندثار أهل التحقيق الذين يرجعون إلى النصوص لتنقيح المقروء به، فلا نجد اليوم أمثال الشيخ الضباع والمتولي والمرعشي وغيرهم بل القلة التي عرفت بالتحقيق يخشى أن تندثر إن لم نستدرك ذلك.
رابعاً: غياب مرجعية يرجع إليها عند النزاع فيكثر الخلاف ويؤخذ بالاجتهاد فيما لا تدع إليه الحاجة ويصير من السند المتصل فتتغيّر المشافهة من زمن إلى زمن.
خامساً: تصدّر للإقراء من لا درية له بما يقرئ فيزداد الطين بلّة فينتشر الخطأ والغلط عند الجازين فتتدهور المشافهة من جيل إلى جيل وفي الأخير يقال أننا نقرأ القرءان كما أنزل وهم يبتعدون عن ذلك كلّما مرّت الأزمان.
أكتفي بهذا وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
محمد يحيى شريف الجزائري
¥