الحرمين الشريفين في إلزام أئمّة المساجد على القراءة في الصلاة برواية حفص عن عاصم درءاً للفتنة والخلاف الذي قد ينئأ من العوام. وحتّى إن أجمع أهل الشام على قراءة فهل يعاقب من قرأ بغير تلك القراءة المقررة عندهم؟
أمّا مسألة الميم الساكنة عند الباء فلا يسمّى نسخاً لعدّة أسباب:
أوّلاً: ليس هناك ما يوجب العمل به ما دام أنّ المسألة فيها خيار والمأخوذ به أقوى منه قياساً ويقوم مقامه، إذن فيمكننا الاستغناء عن وجه إظهارالميم الساكنة بخلاف المنسوخ فكان العمل به واجباً أو محرّماً عموماً ثم نُسخ بحكم يقوم مقامه ولا يكون في ذلك الخيار.
ثانياً: أنّ النسخ متعلّق بالتاريخ فيكون الناسخ أحدث من المنسوخ في التاريخ، أمّا مسألة الميم الساكنة فلا يمكن أن نقول بذلك.
إذن فإظهار الميم الساكنة لا يُعتبر نسخاً، وامتناعنا للقراءة به هو أننا لم نتلقاه عن مشايخنا لوجود ما يقوم مقامه وهو الأقوى منه قياساً والثابت بالنصّ والأداء.
الآن أعود إلى شيخنا الجكني:
الذي حملني على الخوض في هذه الأمور هو استعمال لفظ الشهرة والإجماع والتواتر في بعض المسائل التي لم تثبت عند القدامى فأردتّ أن أبيّن أنّ الإجماع المعتبر هو ما أجمع عليه القدامى وأنّ التواتر المعتبر هو ما تواتر عند القدامى وأنّ الشهرة المعتبرة للوجه هو ما اشتهر عند القدامى وتلقوه بالقبول، فليس هناك إجماع مخالف لإجماع القدامى، وليس هناك تواترٌ يخالف تواتر القدامى وليس هناك شهرة تخالف شهرة القدامى، ولمّا كانت ضوابط هذه الاصطلاحات غير موجودة في كتب أهل الأداء أو لم يتيسّر لي مطالعتها إن وُجدت، اعنمدتّ على ضوابط أهل الفقه والأصول فيما لا يعارض مناهج أهل الأداء. ولو تركنا الأمر من غير ضوابط فإنّي أخشى أن نرى في المستقبل اشتهار أوجه لم تكن عند السابقين، فيصير كلّ ما اشهر وتواتر عند المتأخرين من السند المتصل إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وهذا مخالف للمتابعة إذ القراءة سنة متبعة. زيادة على ذلك إطلاق لفظ النصّ على أقوال المعاصرين والعمل بمقتضاها ولو على حساب نصوص أئمّتنا. فإن كان أقوال القدامى غير معتبرة فيما خالف الجمهور أو الإجماع فما بالك بأقوال المتأخرين والمعاصرين.
شيخنا الجكني، ما سطرته لكم هو مجرّد رأي لا أدعي الكمال فيه، ولكن لا بدّ أن نفعل شيئاً لا يمكننا أن نترك الأمور كما هي، لا أريد أن أكون الوحيد الذي يحمل همّ هذه المسائل، لا يجوز لنا أهمال النصوص المعتبرة وإهمال ما تواتر عند القدامى وما أجمعوا عليه فنحن متّبعون وليسنا مبتدعون، شيخنا نحن مسئولون حميعاً عن ذلك خاصّة إن تبيّن لنا الحقّ والحقّ لا يعرف إلاّ باتّباع الأسلاف الذين نقلوا لنا القرءان. ا قال أمامنا مالك: مالم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
محمد يحيى شريف الجزائري
ـ[أبو المنذر الجزائري]ــــــــ[13 Jun 2007, 05:34 م]ـ
جزاك الله يا شيخ محمد على ما طرحت وشرحت، وأكبر فيك هذه الغيرة على كتاب الله والتي أسأل الله عز وجل أن يزيدك بها نورا على نور، إلا أنني أهيب بك أن تبعث بمثل هذه الأطروحات وأن تعرضها على المشايخ المحققين أمثال الشيخ أيمن سويد والشيخ إيهاب فكري والشيخ يحي غوثاني وغيرهم وفقهم الله حتى تجد لما تدعو نصيرا، ولما تنادي ملبيا وبصيرا، فإنك بارك الله فيك قد نبهت على أمور مهمة وخطيرة لا أراها تصلح لمثل هذه المساجلات والله أعلم.
أما في مسألة إطلاق النص على "كلّ ما نُقله الأئمّة عن القراء أو رواتهم أو دونهم بالسند المتصل إليهم وكذا كلّ ما نُقلَ في المصادر المعتبرة حتّى ولو كان منبعه قياس واجتهاد بغضّ النظر في كون مضمونه معتبراً متلقًىً بالقبول أم ضعيف لا يُعملُ به" فأرى أن ذلك غير دقيق في العبارة، وأنكم قد أهملتم النظر إلى سياق الكلام وسباقه، فإن النص في كتب القدامى يطلق ويراد به مطلق الذكر، وأحيانا يطلق ويراد به القول المختار المعتبر وكل ما ذكرتم أعلاه، وهذا لا يحكم فيه إلا سياق الكلام،.قال ابن الجزري في مسألة من يكرر السورة نفسها: " فلم أجد فيه نصّاً والذي يظهر البسملة قطعاً، فإنّ السورة والحالة هذه مبتدأة كما لو وصلت الناس بالفاتحة. " انتهى النشر 1/ 270"، فمراده بالنص هنا الذكر أي لم أجد من ذكر أو تكلم عن هذه المسألة من القدامى فضلا عن اختيارها، وقد يراد به قولا غير معتبر كما قال في كان آخر:" وأمّا نص بعض المتأخرين على ترقيقها بعد الحروف المفخمة فهو شيء وهم ولم يسبقه إليه أحد " النشر 1/ 215، وهناك كلمة أخرى استعملها العلماء القدامى في مصنفاتهم وهي كلمة "زعموا"، فأحيانا يراد بها مطلق الذكر والحكاية، وأحيانا يراد الادّعاء، فسياق الكلام هو المحتكم في الرجوع إلى المعنى المراد، والله تعالى أعلم، وهو الموفق إلى كل خير.
¥