أما عند القراء فالأمر يختلف، فالأصل أن ما بين دفتي المصحف هو القرآن وتتلقاه الأمة جيلا بعد جيل، والإسناد شئ زائد لأنه متي تواتر الوجه لم يكن لصحة السند أو غيره من الشروط اعتبار قال في النشر 1/ 23: فإن التواتر إذا ثبت لا يحتاج فيه إلى الركنين الأخيرين من الرسم وغيره، إذا ما ثبت من أحرف الخلاف متواتراً عن النبي صلى الله عليه وسلم وجب قبوله وقطع بكونه قرآناً سواء وافق الرسم أم خالفه وإذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابت عن هؤلاء الأئمة السبعة .. ) ا. هـ
وقال أبو شامة: ... واتفقت عليه الفرق من غير نكير له مع أنه شاع واشتهر واستفاض فلا أقل من اشتراط ذلك إذا لم يتفق التواتر في بعضها.) ا. هـ
والمقصود أنه متي استفاض وجه واشتهر وقبلته الأمة كان قرآنا، وليس معني رجوع ابن الجزري من القول بالتواتر إلي القول بصحة السند أنه ينفي استفاضة الوجه قال الشيخ عبد الفتاح القاضي:" والحاصل أن القراءة إن خالفت العربية أو الرسم فهي مردودة إجماعا ولو كانت منقولة عن ثقة، وإن كان ذلك بعيدا جدا بل لا يكاد يوجد وإن وافقت العربية والرسم ونقلت بالتواتر فهي مقبولة إجماعا،وإن وافقت العربية والرسم ونقلت عن الثقات بطريق الآحاد فقد اختلف فها،فذهب الجمهور إلي ردها وعدم جواز القراءة بها في الصلاة وغيرها سواء اشتهرت واستفاضت أم لا، وذهب مكي بن أبي طالب وابن الجزري إلي قبولها وصحة القراءة بها بشرط اشتهارها واستفاضتها، أما إذا لم تبلغ حد الاشتهار والاستفاضة فالظاهر المنع من القراءة إجماعا،ومن هنا يعلم أن الشاذ عند الجمهور ما لم يثبت بطريق التواتر وعند مكي ومن وافقه ما خالف الرسم والعربية ولو كان منقولة عن الثقات أو ما وافق الرسم والعربية ونقله غير ثقة أو نقله ثقة ولكن لم يتلق بالقبول ولم يبلغ درجة الاستفاضة والشهرة "ا. هـ القراءات الشاذة صـ7
وقوله: أما إذا لم تبلغ حد الاشتهار والاستفاضة فالظاهر المنع من القراءة إجماعا)) أي أن الخلاف في المسألة لفظي.
وقول ابن الجزري: وإذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف)) أجاب عن هذا الإشكال العلامة السخاوي حيث قال في كتابه " فتح الوصيد في شرح القصيد ": والقراءة سنة لارأي وهي كلها وإن كانت عن السبعة مروية متواترها لا يقدح في تواترها نقلها عنهم، لأن المتواتر إذا أسند من طريق الآحاد لا يقدح ذلك في تواتره.
كما لوقلت: أخبرني فلان عن فلان مدينة سمرقند، وقد علم وجودها بطريق التواتر لم يقدح ذلك فيما سبق من العلم منها، ونحن نقول: إن قراءات السبعة كلها متواترة، وقد وقع الوفاق أن المكتوبة في مصاحف الأئمة متواتر الكلمت والحروف.
فإذا نازعنا أحد بعد ذلك في قراءة التواترة المنسوبة للسبع فرضنا الكلام في بعض السور فقلنا: ما تقول في قراءة ابن كثير في سورة التوبة " تجري من تحتها " بزيادة "من" وقراءة غيره " تجري تحتها " وفي قوله تعالي " يقص الحق " و" يقض الحق " أهما متواترتان؟؟
فإن قال: نعم فهو الغرض، وإن نفي تواترهما خرج الإجماع المنعقد علي ثبوتهما وباهت فيما هو معلوم منهما، وإن قال: بتواتر بعض دون بعض تحكم فيما ليس له، لأن ثبوتهما علي سواء فلزم التواتر في قراءة السبلعة، فأما ما عداها غير ثابت تواترا ولا تجوز القراءة به في الصلاة، ولا في غيرها ولا يكفر جاحده وإن جاء من طريق موثوق به إلتحق بسائر الأحاديث المروية عن الرسول صلي الله عليه وسلم فإن تضمن حكما ثابتا لزم العمل به وإلا فلا وربما كان مما نسخ لفظه لا تجوز القراءة به مع أن الاجتراء علي جحده غير جائز لأن علمه موكول إلي الله عز وجل إذ قد أسند طريق العلم ولا يجوز أن نثبت ما لم يعلم صحته بكونه من عند الله قرأنا لعل ذلك تقول علي الله تعالي وكذب في قوله تعالي:" ويقولون علي الكذب وهم يعلمون " ... )) صـ 279/ 280
وقوله: وإن قال: بتواتر بعض دون بعض تحكم فيما ليس له، لأن ثبوتهما علي سواء فلزم التواتر في قراءة السبعة))
فيه رد علي من يقول بعدم تواتر كل حرف أي من أحرف الخلاف.
وأسانيد القراء من الناحية النظرية هي أسانيد آحاد بالنظر إلي قاعدة المحدثين لأنه فرد عن فرد، وجواب القراء علي هذه الشبهة: (" انحصار الأسانيد فى طائفة لا يمنع مجىء القران عن غيرهم، فلقد كان يتلقاه أهل كل بلد بقراءة إمامهم، الجم الغفير عن مثلهم، كذلك دائما، فالتواتر حاصل لهم. ولكن الأئمة الذين قصدوا ضبط الحروف، وحفظوا شيوخهم منها، جاء السند من جهتهم، وهذه الأخبار الواردة فى حجة الوداع هى آحاد. ولم تزل حجة الوداع منقولة عمن يحصل بهم التواترعن مثلهم فى كل عصر فهده كذلك " اهـ. البحر المحيط للزركشى ج 2/ ص 212. نقلا عن "االقراءات القرانية" ص. 18
ونخلص من ذلك أن المحدثين إن أر: ادوا تواترا اشترطوا تواتر الأسانيد. ولا يعتمدون علي شهرة الحديث وغيره بل قاموا بتصنيف المصنفات التي تردُّ الأحاديث المشتهرة علي ألسنة الناس مثل كتاب عبد الرحمن بن علي الشيباني الشافعي (تمييز الطيب من الخبيث مما يدور على ألسنة الناس من الحديث) وهو مختصر: (المقاصد الحسنة)) وكذا كشف الخفاء للعجلوني (انظر كشف الظنون لحاجي خليفة) وغيره من المؤلفات في هذا الشأن.
والقراء: إن أرادوا تواترا اشترطوا شهرة الوجه واستفاضته. وليس كثرة الأسانيد كما سبق.
فأين التقارب لمن يزعمون ذلك؟؟ فمنهج الفريقين مختلفان في تناول مسألة السند من الجهة العملية.
وليست العبرة في وجود كلمة ضعيف أو مجهول أو تعليق علي سند من حيث الصحة والضعف كما في كتاب غاية النهاية أو غيرهما من كتب ابن الجزري نسرع ونقول: هذا تقارب. بل يجب النظر في محل ورود النص.
والعبرة من جهة الأداء بكتاب النشر وقد سبق الحديث من قبل. ويستحيل تطبيق قواعد المحدثين في قبول القراء.
فمثل هذه النتائج لا يصل إليها إلا من كان قارئا، وجلس للإقراء وعلم مذهب القراء والمحدثين.
والسلام عليكم
¥