ونجد أن من بواكير الاهتمام بمعلم القرآن الكريم بعث عثمان - رضي الله عنه - قراء مع المصاحف التي أرسلها إلى الأمصار؛ لتكون المصاحف قدوة لأهل تلك الديار، يأتمون بها في قراءتهم وصلواتهم، وليكون القارئ المبعوث معلماً لعامة أهل كل مصر القراءة وَفق مصحفهم.
وإن جاز أن تؤخذ بعض العلوم بلا معلِّم، فإن هذا الأمر لا يمكن حصوله أبداً في تعلّم قراءة القرآن الكريم؛ لأن تعلمه متوقف على العرض والتلقي والمشافهة والإسناد، فلا بدَّ فيه من معلِّم يرجع إليه.
ويتناول هذا البحث قِوامة معلم القرآن الكريم، وصفاته الذاتية، والعلمية، والتربوية، التي تؤهله للمشاركة بمقومات شخصية تميزه في درب خيرية تعلّم القرآن وتعليمه، دون التطرق لأهداف التعليم القرآني، أو طرائقه، أو أخلاق طلاب الحلقالقرآنية، وغيرها من الآداب التي ينبغي توافرها في عملية التعليم.
والصفات التي يتحدث عنها البحث، هي بعض من صفات لازمة، ينبغي تحققها في معلم القرآن الكريم، وهي غير مقصورة على المتصدي للتعليم في الحلقات، بل هي متأكدة في حق كل متعاط لهذه العملية الشريفة، بصورة جماعية، أو فردية.
وذلك أن المعلم هو محور التعليم والدرس والتربية، فمهما وضعت من مناهج متقنة، وهيئت من ظروف ملائمة، ووفرت من وسائل معينة، كل ذلك لا يغني عن الأداة الفاعلة في العملية التعليمية، وهو المدرس الكفء في الموقع المناسب؛ لأن عناصر التعليم قد تكون في غاية المواصفات المتقنة، لكنها تنحدر وتهبط على يد المدرس غير المؤهل، أو توجَّه من قبله
توجيهاً نافراً، أو تهمل ولا يفاد منها.
فلا غرو أن تكون دراسات جادة في تأصيل شخصية المعلم، وبيان دوره الفعَّال.
ولقد حرَص الخلفاء وعلية القوم ووعاة الناس - قديماً - على اختيار المدرس الناجح لأبنائهم، ونجد - اليوم - في عالم الناس من يحرص على التحاق ولده في المدرسة النموذجية، التي فيها نخبة من المدرسين الأكفاء؛ لأن ثمرة التعليم وجناه مترتبة على تأهل المدرس بالصفات اللائقة، وأخذه بها في مسيرته المباركة.
إن تأهيل المدرس بالمقومات التي تصل به إلى المستوى المناسب من إقامة الدين - وهو أحد حملته ونقلته -، فالطلاب عيونهم مفتوحة على هذا الموجه، فيحسِّنون ما حسَّن، ويعيبون ما قبَّح، وقد يتأثر التلميذ - أحياناً - بمدرِّسه أكثر مما يتأثر بوالده، والطبع - كما يقال - سرَّاق؛ لذلك ربط بعض السلف بين العلم والدين، وكانوا يتعلمون من معلميهم - أيضاً - الدلَّ والسمت والخلق.
ويسهم هذا البحث إسهاماً متواضعاً في بيان بعض الصفات الأساسية لمعلِّم القرآن الكريم، ويشير إلى وسائل مفيدة - أيضاً - لمدرس القراءات القرآنية من باب التتميم والإفادة.
(بحث المقومات الشخصية لمعلم القرآن الكريم) أحد بحوث ندوة عناية المملكة بالقرآن الكريم وعلومه،1421هـ) طبع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة.
ــــــــــ
وفي نظرتي القاصرة إلى هذه القضية المهمة أقول:
في عصرنا اليوم يتخرج معلمو ومعلمات القران الكريم، ولديهم حاجة ماسة إلى التوجيه الذاتي والتربوي والتخصصي، حتى يمكن اكتساب الشخصية العلمية ومقوماتها.
لا أعني تلك الجوانب التربوية المدروسة في المحاضرات والمصادر، بل أقصد تلك التي يكون نواتها الخبرة الشخصية الذاتية الطويلة، وتلك المكتسبة بفعل عوامل كثيرة أهمها الاحتكاك مع ذوي الخبرة الثرية بالمواهب والاكتشافات، وطول الممارسة.
ومن الطريف أن كثيرا ممن درسوا على مجموعة من المشايخ في الصغر، والكبر لابد أن تكون لديهم بعض الخبرات ومع هذا لا نجد من يذكرذلك، ولعله تورع منهم، علما بأن الحاجة ماسة إليه لديه كثير من الطلاب والخريجين.
في هذا الصدد أذكر تجربة لبعض الإخوة:
فقد ذكر لي أحد إخواننا أنه كان يدرس في صغره على شيخ معروف بالشدة والتركيز على تجويد القرآن الكريم، وكانت حلقته مشهودة، لكن إنتاج هذه الحلقة من الحفاظ ضئيل جداً، لذا حاول والد هذا الأخ نقل ابنه إلى معلم آخر لديه مرونة في التدريس والإقراء فكان أن تخرج ابنه في مدة وجيزة حافظا لكتاب الله عزوجل كاملاً.
تجربة أخرى:
حدثني الكثيرون عن أن الشخصية المقبولة في القراءة والإقراء، هي: تلك الشخصية المتواضعة، والغزيرة المعلومات، والفائدة، ولاسيما إذا كانت تهتم بجوانب أدبية أو ثقافية فذلك كله حسن جميل، وإن سعيد الحظ من رزقه الله بمعلم من هذه النوعية الممتازة.
وقد سمعت كثيرا من طلاب الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله ثناؤهم على طريقة تعليمه للكثيرين من طلبة العلم القادمين إليه، ومما حفظته عن بعضهم:
هو أنه كان يقوم بالتنسيق أولا بين الطلاب عنده في مجلسه، فيضع الطالب كثير الحركة والسؤال مع الطالب الهادئ المستوعب، وبعد انتهاء الدرس الذي هو بحسب رغبة الطالبين نفسيهما، يقوم بتكليفهما بعد انتهاء الدرس، بالتلاقي للمدارسة في دار أحدهما أو المسجد، لحفظ الدروس المطلوبة، ثم في اليوم الثاني يكون الحضور عنده للسؤال والمدارسة فيما سبق ولمعرفة ماتحصل عندهم،
هذا وغيره جعل مدرسة (الشيخ الأمين الشنقيطي) رحمه الله ثرية بالتوجيهات والمقومات الأساسية لطالب العلمية في شتى المجالات العلمية، ومنها دون شك مجال قراءة القرآن وتعليمه.
وأخيرا أقول: إنّ مدرسة (الشيخ الأمين الشنقيطي) وغيرها من المدارس الناجحة،
لتحتاج منا اليوم إلى تخصيص بحوث رصينة شيقة، تسعى لاكتشاف بعض الجوانب الشخصية لمعلمي القرآن الكريم العلمية الحافلة بالعلم والعمل، والموهبة، والندية، والأساليب التربوية النافعة.
والله الموفق.
¥