أولا:- بمناسبة الحديث عن الخلاف بين علماء الأصوات المحدثين والقدامى هل هو خلاف لفظي فقط أما يترتب عليه عمل، فقد سبق أن قلتُ: الخلاف في الغالب لفظي. وأزيدها وضوحا فأقول: الخلاف الذي يترتب عليه عمل أو تغيير في النطق هو في أصوات القاف والطاء والجيم والضاد، وهذه أربعة أصوات فقط، أما الخلاف اللفظي والذي لا يترتب عليه تغيير في النطق فهو في أصوات الهمزة والهاء والعين والغين والخاء والكاف والأصوات الأسنانية (الثاء والذال والظاء) والواو (غير المدّية) وأصوات المد (الألف والواو والياء)، وهذه ثلاثة عشر صوتا ولا يترتب على الخلاف في واحد منها عمل أو تغيير. وبهذا يتضح ما قلتُه: الخلاف في غالبه لفظي.
وحتى يطمئن إخواننا من أهل التجويد فإن الصواب في الأصوات الأربعة الأولى (القاف والطاء والجيم والضاد) إنما هو مع القدماء لا مع المحدثين - من وجهة نظري - وقد بيّنت ذلك في البحث الذي قدّمتُه إلى الدكتور كمال بشر والذي أشرتُ إليه في مشاركة سابقة.
ثانيا:- العلم في تطور، وليس كل ما قاله قدماؤنا العظام صحيحا لأنه هو القديم والتراث، وإلا فقد ادّعينا لهم العصمة، ولا أحسبهم يرضون بذلك.
وماذا نقول إذا أثبتنا بالأدلة أن الهمزة مثلا ليست مجهورة، وأن العين ليست متوسطة بين الشدة والرخاوة، وأن الأصوات الأسنانية (ث – ذ – ظ) ليست لثوية، وأن الكاف ليست لهوية، وأن الهاء ليست من أدنى الحلق، وأن الواو تخرج من الطبق - أي من ارتفاع آخر اللسان إلى الطبق - مع ضم الشفتين لا من الشفتين وحدهما؟
إذا أثبتنا ذلك فهل يمكننا استبعاد الخطأ أو الوهم في بعض وصف سيبويه والخالفين له، رغم اعتمادهم على العربية الفصحى في وصف الأصوات؟
ثالثا:- أما أساس الاعتماد في وصف الأصوات لدى القدماء والمحدثين، فإني أقتبس هذه الفقرات من بحثي المقدّم إلى الدكتور كمال بشر:
(((وقد جاء عمل علمائنا القدامى وتحديدهم لمخارج الأصوات وصفاتها، مبنيًّا على التجربة الحية، فهم أهل الفصحى، والفصحى لغتهم، فإنما يصفون أصوات اللغة بوصفها جزءا منهم لا يتجزأ. أما علماؤنا المحدثون فقد بَنَوْا تحديدهم لمخارج الأصوات وصفاتها على ما يمثل العربية الفصحى نطقا، ألا وهو نطق قُرَّاء القرآن الكريم، وهذا شيء جيد؛ فلم يبق ما يمثل النطق الفصيح لأصوات العربية غيرُ أهل القرآن الكريم الذين تلقّوه سماعا وعَرْضا فيما يشبه سلاسل الإسناد لدى أهل الحديث النبوي الشريف.
وقد اعتمد علماؤنا المحدثون على نطق القُرَّاء المصريين فحسب، ولا شك أنهم أبرز القُرَّاء على الساحة وأتقنهم وأعلمهم بالقراءة وأحكامها، وقد قيل: أُنزِل القرآن بالجزيرة، وكُتِب بإستانبول، وقُرِئ بمصر؛ فأهل مصر هم أعلم أهل الأرض بقراءة القرآن.
ولكن بالرغم من هذا فإن الاعتماد على القُرَّاء المصريين وَحْدَهم فيه خطر عظيم؛ فإنهم - قراءَ مصر - قد تأثروا بنطق المصريين لبعض الأصوات، وعددٌ من القُرَّاء - ليس قليلا - يعرف مخارج الحروف وصفاتها كما وصفها ابن الجَزَري، ولكن يخالف معرفتَه نطقُه. والسبب في هذه المخالفة راجع إما إلى عدم معرفة بعضهم بمسألة تعرض الأصوات للتطور على مر الزمن، فهو يظن أن الأصوات ثابتة وأن ما قال ابن الجَزَري إنه مجهور يظل مجهورا، لذا يهمس بعضهم حرفا مجهورا عند ابن الجَزَري وتسأله: أمهموس هو أم مجهور؟ فيقول: مجهور طبعا. وأحسب أن هذا النوع قليل؛ وإما إلى غلبة نطق أهل بلدته على نطقه وإن كان على علم بخطئه، فلهذا نوعُ عذرٍ.
وعلى أية حال فلا أحد فوق مستوى الخطأ، ولكل صاحب خطأ عذره في ذلك. وكان أحرى بعلمائنا المحدثين أن يمثلوا الأقطار العربية جميعها في هذا الاعتماد، ولا يخلو كل قطر عربي من قارئ جيد متقن لأحكام التلاوة عارف بمخارج الحروف وصفاتها.
أضف إلى ذلك أننا في حال اختلاف القُرَّاء في أداء معين، علينا أن نرجح كِفَّة من وافق أداؤه كتبَ الأحكام والقراءات؛ فإنه إن كان نطق القُرَّاء يمثل ما ورد في كتب الأحكام، فإنها (كتب الأحكام) الضابطُ والمقوِّم لما اعوجَّ من نطق القُرَّاء وأدائهم))).
¥