تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

حسب وليس الغرض فيه ذكر من أوقعه به (9) بل إن الأمر تجاوز مثل هذه الإشارات إلى إيجاب إعراب (زيدٍ) مبتدأ مثلاً في جواب من سأل: من قام وردّ كلام النحاة في كونه فاعلاً لأنَ (اللبس لم يقع عند السائل إلا فيمن فعل الفعل فوجب أن يتقدم الفاعل في المعنى لأنه مُتعلق غرض السائل وأما الفعل فمعلوم عنده ولا حاجة به إلى السؤال عنه) (10) وبهذا يُعرف أن النص القرآني يريد أن يلفت انتباه المتلقي ويركزه على المتحدث عنه (النفخ في الصور وحمل الأرض ودك الجبال ... ) وأن ينقل إليه هذه الصورة ويجسدها أمام ناظريه .. وليس لذكر الفاعل سبحانه أثرٌ هنا في حيوية النص ما دام سبحانه معلوماً متعيناً إذ إن ذكره سبحانه بالإضافة إلى أنه سيكون تطويلاً لا مسوغ له فأنه يضيّع في الوقت نفسه تركيز الانتباه على الحدث ومشاهد يوم القيامة (11) قال تعالى: ((أفلا ينظرون إلى الإبلِ كيفَ خُلقت)) (الغاشية: 17) و ((فلينظر الإنسان مِمَّ خُلقَ خُلِقَ من ماءٍ دافق)) (الطارق: 5 - 6) و ((أم خُلقوا من غيرِ شيءٍ أم هم الخالقون)) (الطور: 35) ففّرق - سبحانه - في الآية الأخيرة في البناء، مع أن الفعل واحد لأن الفعل كان دعوة للتفكر في مادة الخلق فلا يتناسب معه ذكر الفاعل وفي الثاني سؤال بعد معرفة مادة الخلق أو عدم معرفتها فناسب أن يذكر فاعله لأنهم إن عرفوا فسيتعين عليهم النفي إذ هذا ليس في مقدرتهم وإن لم يعرفوا تعين النفي أيضاً لأن من لا يعرف منشأ الخلق غير قادرٍ عليه .. والله أعلم.

وقد يحذف الفاعل لغايةٍ تعبيرية منها الأدب في الحديث وتنزيه الفاعل عما لا يليق أن ينسب إليه رغم أنه هو فاعله حقيقة قال تعالى على لسان الجنّ: ((إنا لا ندري أشرٌ أُريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا)) (الجن: 10) فلا يخفى ما في قولهم هذا من الأدب حيث لم يصرحوا بنسبة الشر إلى الله - تعالى - كما صرحوا في الخير وإن كان فاعل الكل هو الله - تعالى - فهم بهذا قد جمعوا بين الأدب وحسن الاعتقاد (12) وهذا أكثر من أن يُحصى في القرآن الكريم مثل ((صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)) (الفاتحة: 7) فنسبوا الإنعام له تعالى وبنوا الغضب على اسم الفاعل والضلال على اسم الفعل من غير ذكر فاعلٍ له تنزيهاً له تعالى وأدباً من نسبة ما ظاهرة الغضب والضلال له تعالى.

وقد يُحذف الفاعل على الرغم من تعلق السياق به، قال تعالى: ((وإن سعيه سوف يُرى)) (النجم: 40) فعلى الرغم من أن الغرض متعلق بالفاعل إذ في ذكر (الرائي) زجراً للإنسان، غير أن حذفه أعطى هذا التعبيرمن القوة والتهويل الشيء الكثير، ذلك أن الآية في مقام تهديد الناس وإنذارهم فحذف الفاعل (الرائي) ليصحّ أن يكون الكل فاعلاً لهذه الرؤية. وقال تعالى: ((يُسقون من رحيق مختوم)) (المطففين: 25) وذكر الفاعل كان ضرورياً هنا لبيان أثر النعيم الذي يعيش فيه أهل الجنة ذلك أنهم لا يكلفون عناء السُّقيا ولا مشقة اجتلاب الماء فهم لا يستقون وإنما يُسقون على أن فعل السقيا - كما يقول الدكتورنحلة - قد ورد مرّة أخرى مبنياً للمجهول في وضعٍ مناقض تماماً للوضع السابق، ولكن البلاغة القرآنية المعجزة استخدمت البناء للمجهول استخداماً بارعاً وحذفت الفاعل مع تعلق الغرض به وإن اختلف الغرضان قال تعالى: (( ... تصلى ناراً حامية تًسقى من عينٍ آنية)) (الغاشية: 4 - 5) فجاء فعل السقيا في موضع العذاب كما جاء من قبل في موضع النعيم والسقيا من ماء شديد الحرارة ((كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم)) (الدخان: 46) فلما كان الشراب هكذا ما كان معقولاً أن يشربوه بأنفسهم فلابد إذن من إرغامهم على ذلك ولا يكون إلا بفعل فاعل في حذفه وعدم ذكره بلاغة أكبر من ذكره ليترك للخيال فرصة تصور هؤلاء الجبابرة الذين يرغمون العاصين على تجرع هذا الشراب (13).

الحواشي:

1) ينظر: الأسس النفسية 137، وينظر: رأي بنت الشاطئ في الإعجاز البياني 222 – 224.

2) المقدمات وتفسير الفاتحة 137.

3) المصدر السابق 160.

4) ينظر: دراسات قرآنية 133 – 134.

5) الإعجاز البياني في كتاب العربية الأكبر 206 – 207.

6) وفي هذا إشارة للمشاكلة والمناسبة وستأتي في كلام إبراهيم السامرائي.

7) ينظر: درّة التنزيل 51.

8) ينظر: المحتسب 1/ 65 – 66 ويستدل على هذا في موضع أخر بقراءة (يوم يُقال لجهنم) (ق 30) المحتسب 2/ 284.

9) ينظر: المحتسب 1/ 135.

10) الإتقان 1/ 338 وذكر السيوطي أنه قول ان الزملكاني في البرهان.

11) ينظر: الأسس النفسية 137.

12) ينظر: التفسير الوسيط 16/ 192، وروح المعاني 29/ 88، وتفسير القاسمي 16/ 5949.

13) ينظر: لغة القرآن 392.

د. عامر مهدي العلواني

مدرس البلاغة والنقد في قسم اللغة العربية

جامعة الأنبار

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير