تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[الفاصلة القرآنية]

ـ[د. أبو عائشة]ــــــــ[11 Aug 2004, 04:06 م]ـ

[الفاصلة القرآنية]

إنّ طبيعة الاختيار في القرآن الكريم إنما تأتي بحسب حاجة السياق أو النظم لا بحسب مطلبٍ شكلي مسبق يُفرض على السياق (قد يكون متوافقاً صوتاً ودلالةً معه) بدايةً إلا أنه يبقى مفروضاً حتى بعد انعدام التوافق لتغير السياق كما في القافية في البناء الشعري والسجع في البناء النثري (الفني)، ولعل هذا أكبر عيب يوجهه النقد الصوتي إلى قصيدة الشعر العمودي والنثر الفني (المسجوع) لأنّ (المؤلف) يكون هنا أمام اختيار ملزَمٌ على فعله؛ لذلك قيل قديماً (فواصل القرآن تابعة للمعاني وأما الأسجاع فالمعاني تابعةٌ لها) (1)، ولعل هذا أبرز سمةٍ أسلوبية اختص بها القرآن تتمثل في أنه لم يكن مختاراً لما يُعدُّ الأفصح أو حتى المشتهر من أساليب العرب وإنما كان حرّاً حريّةً كاملة في اختياراته الأسلوبية الأمر الذي لم يعطه التفرد الشكلي فقط وإنما حاز التفرد المعنوي كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ومن هذا - ورغم اعترافي الكامل بالوحدة الموضوعية للسورة ككلّ - يمكن أن نقسم السورة الواحدة إلى عدّة بنى منفصلة أسلوبياً بحسب الاستعمال الصوتي للفاصلة، فكلُّ مجموعةٍ من الآيات تتناول جانباً معيناً (على مستوى الدلالة أو الصورة) تشترك في استعمال فاصلةٍ معينة ما أن تتغير حتى يكون هذا الجانب (الدلالي أو الصوري) قد تغير لا لتغير الفاصلة، لأن التغير كان له ومن أجله، و كل هذه التشكيلات ذات الفواصل المتحدة تنصب في وحدة موضوعية واحدة تتجلى في أوضح صورها في اختيار المفردة (صوتاً ودلالةً وبنيةً وحالاً) في كل السور القرآنية، وخير مثالٍ على ذلك سورة الضحى حيث يمكن أن تكتب الفاصلة- وحسب التشكيلات الأسلوبية - بالشكل الآتي:

(والضحى، والليل إذا سجى، ما ودّعكَ ربُّكَ وما قلى، وللآخرة خيرٌ لكَ من الأولى، ألم يجدكَ يتيماً فآوى، ووجدكَ ضالاً فهدى، ووجدكَ عائلاً فأغنى،

فأما اليتيمَ فلا تقهر * وأما السائلَ فلا تنهر * وأما بنعمة ربِّكَ فحدِّث) (سورة الضحى).

فما أن انتقلت الفاصلة من صوت (الألف) إلى (الراء)، إلا وقد انتقل قبلاً المعنى الدلالي ذو الجرس المدّي (الألف) المناسب لمقام تطمين الرسول (صلى الله عليه وسلم) بعد انقطاع الوحي وإخباره بعدم (التوديع ولا القلى) لذلك ما كان أنسب هنا من صوت المدِّ (الألف) ليكون فاصلة وجاء اختياره دون أصوات المدِّ الأُخر لعذوبته ورقته (2)، والتي ناسبت الألفاظ الرقيقة المختارة (الضحى، سجى، ودعك ... ) ذات الجرس الهادئ، فالألف هو الصوت الذي يمثل الوضوح السمعي الأعلى في أصوات العربية لامتداده (3)، وهو السرُّ في اختيار (الضحى) قسماً فدلالة الوضوح هي الملحوظة في كل الاستعمالات الحسية للمادة (ضحى) فالضاحية السماء، وقيل لما ظهر وبدا ضاحية ... (4).

أقول ما إن انتقلت الفاصلة حتى انتقل قبلها المعنى لذلك جاءت تبعاً له مناسبةً ما دلّ عليه من أمر وإلزام، ولما لم يكن الصوت الممتد ملائماً له عُدِلَ عنه إلى صوت (الراء) المكرر الذي يشبه بصوته الإلزام والتأكيد خصوصاً بعد إن جاء بعد (الهاء) الصوت الحلقي (ثاني أبعد مخرج صوتي في أصوات العربية) (5) مما سيعني امتداداً في النفس لمسافة طويلة نسبياً إلى أن يقطع تماماً عند نطق (الراء) نتيجة انطباق اللسان على اللثة (6).

وكما قلت أولاً فإن هذه التشكيلات الصوتية بحسب الفاصلة تنصب في وحدة موضوعية واحدة تتضح في كيفية اختيار المفردة (صوتاً ودلالة وبنية وحالاً) على طول السورة مما يحقق علاقات مترابطة داخل البنية الكلية ففي سورة الضحى قال تعالى: (ولسوف يعطيك ربُّكَ فترضى) (الضحى: 11) حُذف المفعول الثاني لـ (يعطيك) وهو العطية والسبب في ذلك أن السياق هو سياق ترضيهٍ وتأميلٍ بالفضل العظيم فلو ذُكِرَ أي مفعولٍ يحدّدُ نوع العطية لخرجت بقية الأنواع منها فلو قيل يعطيك الرحمة أو الفضل أو الجنة … الخ لما جاء التعبير على ما هو عليه الآن إذ كلّ ما يمكن أن يُتَصوّر من نِعَمٍ وعطايا يمكن أن يدخل تحت هذا المحذوف , فلا وجه لتحديد المقصود بالعطاء كما تقول بنت الشاطئ بل المفضل إطلاقه مسايرةً للبيان القرآني الذي لم يشأ أن

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير