كما أضحى التعاونُ الوثيقُ بين المجالات المعرفِيَّةِ المُتَدَاخِلَةِ سِمةً من سِماتِ القرنِ العشرين؛ فالعملُ العلميُّ الصَّحِيحُ ينبغي أن يرتبط بنظرية المعرفة، لذا كان على اللِّسانِيِّ الحديثِ أن يتسلَّحَ بالمعرفة التي يُحَصِّلها من العلوم الأخرى , ومن بينها العلوم الدَّقِيقَةُ , كما كان عليه أن يمتلك آفاقاً معرفيةً أوسَعَ بِكَثِيرٍ مِمَّا كان يحلمُ به المرءُ سابقاً، وبذلك اختلفَت لسانِيَّاتُ القرن العشرين عن لسانيات القرن التاسع عشر بالتَّنظِيم المنهجيِّ للمعرفة، وفي التَّفسير الجديدِ للحقائق وفي توسيع مجالات اهتمامِها، وفي انغماسِ دارِسِيها في تعاوُنٍ يَتَّسِمُ بالتَّدَاخُلِ بين التَّخَصُّصَاتِ لإنجازِ مهماتٍ واسِعَةِ النِّطَاقِ بشكلٍ أوسع مما كان متاحاً سابقاً.
لذلك كان على اللِّسَانِيَّاتِ نقلُ الإجراءات المنهجِيَّةِ مِن فروعِ العلم الأخرى (كالتاريخ , وعلم النفس , والجغرافيا ... ) , واستخدامها في تحليل الظَّواهِر اللِّسَانِيَّةِ.
وبذلك ازدهرت اللسانيات على أيدي أنصار اللسانيات البنيوية , لأنَّهم كانوا يجتهدون ويتطلَّعون إلى مناهِجَ جديدَةٍ تُسايِرُ الاتجاهات الأخرى العامَّةَ السَّائِدَةَ في العلوم.
وعليه فقد اكتسبت لسانيَّاتُ النِّصفِ الأوَّلِ من القرن العشرين سِمَتَها الخاصة , وسادت نظرتهم الجديدة إلى الظواهر اللغوية , لكن هذا لا يعني أن اللسانيات التقليديَّة قد اضمحلَّت أو انتهت.
شهدت الصوتيات بوصفها أبسط العناصر اللسانية وأكثرها قابلية للبحث ازدهاراً كبيراً , (ذلك أن الأصوات هي العنصر المادي المحسوس الوحيد في اللغة , أما المعاني فهي مجردة) , وشكَّلَتْ حقلاً بِكْرَاً ملائماً لبناء النظريات.
كما أكدت البنيوية ضرورة الفصل بين الدَّرْس الآني (التَّزَامُنِيِّ) والدَّرس التَّارِيخِيِّ (الزَّمَانِيِّ) بعد أن كان النَّحوُ التَّارِيخِيُّ والمُعاصِرُ مُتَدَاخِلَينِ.
زاد الاهتمام في القرن العشرين باللغات غير الهندوأوروبية , وتوافرت بين أيدي اللِّسانِيِّينَ مادَّةٌ خصبَةٌ مِن تِلكَ اللُّغَاتِ التي تتميَّزُ باختلاف بُنيَتِها عن اللُّغَاتِ غير الهندوأوروبية، وصَرَفَ البُنيَوِيُّونَ جُلَّ اهتمامهم إلى إقرار الدِّرَاسَةِ الوصفيَّةِ اللسانِيَّةِ في المراحل الأولى , لذلك ذهب بعض الدَّارِسِينَ إلى اتهامهم بإهمال الدراسة التَّارِيخيَّةِ للُّغَةِ. لكنَّ الواقِعَ يُثبت عكس ذلك , فإذا كان هؤلاء البنيوِيُّونَ قد اهتمُّوا اهتماماً كبيراً بالمنهج الوصفيِّ , فذلك لأنَّهم كانوا بصدد ترسِيخِ هذا المنهَجِ وإقرارِهِ.
لكنَّ تاريخ اللغة لديهم اكتسب محتوى مختلفاً , فعلى تاريخ اللغة - في رأيهم - أن يُفَسِّرَ التَّطَوُّرَ اللغويَّ في مُجمَلِهِ , وأن يدرُسَ أسبَابَ هذا التَّطَوُّرِ أو التَّغَيُّرِ اللغويِّ.
حَظِيَ علم اللَّهَجَاتِ باهتمامِ اللُّغَوِيِّينَ في بداية القرن العشرين، كما بلغ علم الدِّلالَةِ طَورَ النُّضجِ في هذا القَرنِ، وكذلك شهِدَت اللِّسَانِيَّاتُ النَّفسِيَّةُ (علمُ اللغةِ النفسيُّ) إنجازاتٍ كبرى , إلى جانب النَّحو المنطقِيِّ أو العقلانِيِّ أو التَّولِيدِيِّ، كما توسَّعَ مفهومُ الدِّرَاسَاتِ الفيلولوجيَّة , فشملت التَّارِيخَ الثَّقَافِيَّ للُّغَةِ , ودِرَاسَةَ العامِّيَّةِ والأدبِ الشَّعبِيِّ.
وهكذا اكتسبت البنيويَّةُ انتشاراً واسعاً , وأضحت فكرة البنيويِّين أنَّ (اللُّغَةَ نظامٌ تواصلي ينبغي على الباحثين أن يفحصوا بُنيَتَهُ) مِن المسلَّمات التي لا يمكن للِّسَانِيِّ أن يتَجَاوَزَها.
وأعرضَ كثيرٌ مِن البنيويِّين عن معالجة القضايا اللِّسانية التقليدية التي كانت قد ازدهرت مِن قبلُ , وأضحى التَّعاون المكثَّفُ بين اللسانيين والعلماءِ في المجالات المعرفيَّةِ الأخرى سِمَةً بارِزَةً مِن سِمَاتِ المنهج البنيويِّ , فلجؤوا إلى اقتباس مناهِجِ العلومِ الأخرى وطرائِقِ البحثِ فيها.
اللسانيات البنيوية
¥