في ثمانينيات القرنِ التَّاسِع عشر غادر إلى كازان , ثم إلى جامعة ديربت , حيث درَّس في قسم القواعِدِ المقارِنة للَّهجات السلافيَّة , و أبدى هناك نشاطاً علميَّاً ملحوظاً فدرَس اللغات الأستونية والأرمنية واللاتفية والعربية. وقد أتقن إلى جانب الروسية والبولنديَّةِ الألمانيَّةَ والفرنسيَّةَ والإيطاليَّةَ، وكتب حوالي 640 مقالاً لغويَّاً و قدَّ بحوثاً بِمُعظَمِ اللُّغَاتِ الأوربيَّةِ.
اُنتُخِبَ عام 1887 عضواً في أكاديمية العلوم في كراكوف , وعَمِلَ في جامعتها مُحاضِراً في الصَّوتِيَّاتِ العامَّة والقواعِدِ المقارِنَةِ , واُنتُخِبَ عضواً في جامعة باريسَ اللُّغَوِيَّةِ مدى الحياة واكتسبَ شهرةً عالميَّةً واسِعةً.
كانت له علاقاتُ صَدَاقَةٍ ومراسلاتٌ معَ اللغويِّيْنَ الأوربيِّينَ أمثال دي سوسير , وأنطوان مييه , وباول , وشوفاردت , ويسبرسن.
عاد عام 1900م إلى بطرسبرغ وعُيِّنَ أُستَاذَاً في قسم علم اللُّغَةِ المقارِن واللغة السنسكريتية , وتجمَّع حوله – كما كان في كازان – الكثيرُ من التلاميذ، وقد اهتم في هذه الفترة بالمعجمية و الأسُسِ النَّفسِيَّةِ للظَّوَاهِرِ اللُّغَوِيَّةِ إلى جانب قضايا القواعِدِ العَامَّةِ.
في عام 1918م دَعَتْه جامعة وارسو إلى رئاسة قسم اللغات الهندوأوروبية , وخلالَ عامي 1922 - 1923م ألقى سلسلة محاضرات في جامعتي باريس وكوبنهاجن وغيرها، لكنَّه مع ذلك لم يتمكن مِن صياغة نظريَّةٍ لُغَوِيَّةٍ مُتَكَامِلَةٍ.
وقد تلقف دي سوسير كثيراً من أفكار هذه المدرسة في صياغة نظريته اللغوية، ويبدو هذا جلياً في كتابه (محاضرات في اللسانيات العامة).
مدرسة جنيف اللغوية (مدرسة دي سوسير)
وُلِدَ فرديناند دي سوسير عام 1857م في جنيف. نشر عام 1879م رسالةً بعنوان (رسالات في التنظيم البدائي للصوائت في اللغات الهندوأوروبية).
حصل عام 1880م على الدكتوراه بأطروحةٍ تناول فيها اللغة السنسكريتية. عَمِلَ حتى عام 1891 في معهد الدروس العليا في باريس، وعاد إلى جنيف في العام نفسه , وعمل – حتى وفاته عام 1913 - في جامعتها أستاذاً للدراسات اللغوية المُقارنة , فقام بدراسة السنسكريتية والجرمانية واللتوانية وغيرها , ولم يهتم باللِّسَانِيَّاتِ العامَّةِ إلاَّ بعد عام 1894م، ولم ينشر في حياتِهِ سوى عشرينَ مقالاً.
تَعلَّم على أيدي النحويين أو القواعديِّينَ الشَّباب (بروغمان , أُسْتهوف , ليسكين) , وكان متحمساً لمدرسة كازان اللغوية بشكل خاصٍ، والتي كان لها الفضل في نشأة النظريات (الثَّورِيَّةِ) عنده , وعند أتباع مدرسة براغ من بعده.
فقد تحدَّث سوسير لتلامذته عمَّا تتميز به أفكار بودوان دي كورتيني وكروشيفسكي من أهميةٍ وأصالة , وأكد أنَّ اللسانيَّاتِ الغربِيَّةَ تضرَّرَت كثيراً لِعَدَمِ معرفتها بآراء دي كورتيني.
شكَّلت مُحَاضَرَاتُهُ التي ألقاها بين عامَيْ 1906 – 1911م كتابَه المُسَمَّى (محاضراتٌ في علم اللُّغَة العامِّ) الذي جمع موادَّه بعد وفاتِه تلميذاه شارل بالي , وألبرت سيشيهي.
تقوم نظرية دي سوسير على المبادئ الأساسية التي نجدها في تعاليمه , وهي:
1 - اللغة مادة البحث اللساني: يقول: (الهدف الرئيسي الوحيد لعلم اللغة هو دراسةُ اللُّغَةِ لِذاتها وبِذاتها , ويُمكِنُ النَّظَرُ إلى اللُّغَةِ بوصفها وسيلةَ تواصُلٍ , وهي الوظيفَةُ الأساسِيَّةُ لها , وبوصفها وعاءً ذا محتوى ثقافي وتاريخي. وهي – أي اللغة - تنظيم من الإشارات يدخل تحت علم أعم يُعْرَف بـ " علم السيمولوجيا ").
2 - البُعْد الداخلي والبُعْد الخارجي للألسنية: فالبُعْد الدَّاخِلِيُّ يحتوي على النِّظَامِ اللُّغَوِيِّ. أمَّا البُعدُ الخارِجِيُّ فيرتبط بتاريخ الشَّعب صاحِبِ اللُّغَةِ والحضارة والثَّقَافَةِ والأدب الذي كُتِبَ بها.
فالعناصِرُ الدَّاخِلِيَّةُ لها الصَّدَارةُ , وتتمثَّل بدراسة نظام اللُّغَةِ الدَّاخِلِيِّ. أمَّا العلاقاتُ الخارجيَّةُ فهي ما يُؤَثِّر في اللُّغَةِ مِن عوامِلَ خارِجِيَّةٍ.
¥