وقد عَرَّف علماء الحديثِ الحديثَ بقولهم: هو ما أُثر عنه - صلى الله عليه وسلّم - من فعلٍ أو قولٍ أو تقريرٍ أو صفة خَلْقِيّة أو خُلُقية أو سيرة، سواء كان ذلك قبل البعثة كتحنّثه في غار حراء أو بعدها ([1]).
والخبر عند علماء الفن مرادف للحديث، فيطلقان على المرفوع وعلى الموقوف والمقطوع، فيشمل ما جاء عن الرسول - صلى الله عليه وسلّم - وعن الصحابة والتابعين ([2]).
فلم يُخْرِجِ العلماءُ الكلامَ الواردَ عن العرب من جملة الأحاديث الواردة في كتب السنة ما دام انطلق من شَفَتَيِ النبي - صلى الله عليه وسلّم - أو أصحابه – رضي الله عنهم – وله رائحة الحديث، بأن يكون له دلالة زائدة على كلام العرب.
أذكرُ مثالاً على ذلك كلمة (زعم): استعملها سيبويه بمعنى (قال) في القول المحقق. فقال: زعم الخليل. وهو شيخه. والنبي - صلى الله عليه وسلّم - ثبت عنه أنه قال: (زعم جبريل).
انظر «شرح مسلم للنووي» (1: 45) والشاهد (6) «زعم» في «ارتكاز الفكر النحوي على الحديث والأثر في كتاب سيبويه»، وهذا قصدي من كلمة ذات دلالة. أي: دلالة زائدة على الحَدَثِ والزمن.
أمّا (ذَهَب) و (جَلَس) و (قعد) فلا يوجد فيها خصوصيةٌ دالةٌ سوى الاستعمال العام من الحَدَث والزمن، فلا أعدُّها من الأحاديث في منهجي.
9 - أمّا قولك: (تربتْ يداك) جاء في كلام سيبويه تفسيراً لترب من قولهم: تربًا وجندلاً، فليس من الحديث في شيء، وليس من باب الاحتجاج في شيء.
فأقول: كلمة (تربتْ يداك) وردت في الكتاب (1: 314) هكذا (من قولك: تربت يداك) وهي ذات دلالة خاصة عند النبي - صلى الله عليه وسلّم - وأنا ألحظ أنَّ لها نوراً خاصّاً وقد وردت في كلام النبي - صلى الله عليه وسلّم - في «صحيح البخاري» (5090): «تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربَتْ يداك».
فـ (تربَتْ يداك) لها دلالة زائدة عما يقوله العرب. ومعناها: اطلُبْ ذاتَ الدين – أيها الخاطب – فهي الظفرُ في الحياة الدنيا والحياة الآخرة، ثم دعا - صلى الله عليه وسلّم - لمن آثر الدين بقوله: (تربت يداك) أي: التصقت بالتراب. وهذا كناية عن الدعاء له بكثرة النماء والبركة والخير لما يحمل التراب من معنى الكثرة، ولأن أصل الإنسان مخلوق من تراب، ولأن التراب معدن الفضة والذهب والنبات إلخ ما ذكرته في «ارتكاز الفكر النحوي على الحديث والأثر في كتاب سيبويه» في الشاهد رقم (27).
10 - أما قولك: حديث (كل مولود يولد على الفطرة .. ) أورده سيبويه على أنه قول عن العرب الخ.
فأقول: قال سيبويه في الكتاب (2: 393): وأما قولهم: (كلُّ مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه).
قلتُ في «ارتكاز الفكر النحوي» الشاهد (77): هكذا أورد الحديث سيبويه، وتبعه على ذلك النحويون، وهو بهذا اللفظ لم أجده في كتب السنة، ولعل عبارة (هما اللذان) من إدراج النحاة في الحديث لتقدير المعنى ...
ثم قلت: روي الحديث بألفاظ مختلفة، وذكرتُ رواية «صحيح البخاري» (1385): (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) إلى آخر التخريج.
والنّحاةُ أبو عليّ، وابن جني، والصيمريّ، والرضيّ، والسيوطيّ، وغيرُهم ذكروه في كتبهم على أنه حديث. فهذا الحديث دخله بعض تقديرات النحاة لتقدير المعنى، وذلك لا يخفى على أهل الحديث. وهذا يُشبه عند علماء الحديث (المدرَج)،قال في البيقونية:
والمدْرجاتُ في الحديث ما أتتْ = من بعض ألفاظِ الرواة اتصلَتْ
ولو رجعنا إلى «فتح الباري» (3: 250) لوجدنا فيه: « ... ثم وجدت أبا نعيم في مستخرجه على مسلم أورد الحديث بلفظ: ما من مولود يولد في بني آدم إلا يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه يهودانه. الحديثَ، وكذا أخرجه (ابن مردويه) من هذا الوجه .. ».
فهذا الحديث بعدما بيّنت لفظه الثابت يُقرر حقيقةً في خلق الإنسان وطبيعته لا يعلمها إلا الله – عز وجل – ويعلمُها رسوله - صلى الله عليه وسلّم - عن طريق الوحي.
فهذا الكلام إن لم يكن حديثاً فماذا يكون إذن؟ وسيبويه ذكره على أنه من قول العرب، وصَدَقَ سيبويه، أليس رسولُ الله - صلى الله عليه وسلّم - عربيًّا قرشيًّا؟ بل أليس هو من ساداتهم وأفصحهم؟!
¥