تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وسلم إلى سؤال الفردوس الأعلى فذلك الأليق بأصحاب العزائم الحرة الصادقة.

وإمعانا في بيان هذا العلو: حسا في منازل الجنان، ومعنى في منازل الكمال، جاء الخبر بلفظ التقريب لا القرب، فالمقرب، كما يقول صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، أعلى منزلة من القريب، فزيادة المبنى مئنة من زيادة المعنى، كما اطرد في كلام البلاغيين، فـ: قرَّب: بتضعيف عين الفعل: الراء، أبلغ في الدلالة على معنى القرب من: قرُب: فدلالة التضعيف هنا: التعدية للفعل اللازم قرب، فيقرب بنفسه، بخلاف قُرِّب، فإنه لا يقرب إلا إذا قربه غيره، ولا يستوي من قرب من الله، عز وجل، وإن كان خالص النية صالح العمل، لا يستوي من قرب منه، جل وعلا، ومن قرَّبه، تبارك وتعالى، فالثاني أكمل حالا، فليس الشأن كما يقول بعض أهل العلم أن تُحِب، وإنما الشأن أن تُحَب، وليس كل مقترب بمقرب، بل قد يقترب العبد فيرد لدخيلة سوء أو طوية خبث تفسد ما قدم من صالح القول والعمل، ولذلك كان سؤال الرب، جل وعلا، القبول والإخلاص والمتابعة، فلا قبول لعمل إلا بهذين القيدين: إخلاص النية فلا يشوبها رياء أو حظ نفس، وإخلاص العمل بالمتابعة فلا تشوبه بدعة أو محدثة، كان هذا السؤال من آكد وأعظم ما يسأله العبد ربه، فإن امتن به، تبارك وتعالى، فذلك فضل منه عظيم، وإن منعه، فذلك عدل منه عظيم فلا يظلم أحدا، وإنما يظلم العباد أنفسهم بالمعاصي الظاهرة والباطنة.

والتقريب أعلى من القرب من وجه آخر: فالتقريب، عند التدبر والنظر، غاية القرب، فكل يقترب ليقرب، فغاية العامل طلبا للقرب أن يقرب فيكون من المقربين فرعا عن كونه من المقتربين، فاقترابه: وسيلة، وتقريبه: غاية، والغاية أشرف بداهة من الوسيلة، فذلك من جنس العبادة والاستعانة، فالعبادة: غاية، والاستعانة: وسيلة يتوصل بها إلى المراد الأعظم وهو العبادة فهي أشرف من هذا الوجه، ولذلك قدمت في الذكر في سورة الحمد فـ: (إياك نعبد وإياك نستعين): مع كون الاستعانة فردا من عموم العبادة، ومع كونها سابقة لها في الوجود فهي السبب في حصولها، ومع ذلك قدمت النتيجة في الذكر على السبب لشرف قدرها، فهي الغاية كما تقدم.

والإشارة بـ: "أولئك"، أيضا، كما ذكر صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، مئنة من التعليل، فعلة كونهم مقربين ما تقدم من كونهم سابقين إلى كل خير، قاعدين عن كل شر، فذلك من جنس التعريف بالموصول، فهو مئنة من تعليق الحكم على الوصف الذي اشتقت منه جملة الصلة: تعليق المعلول على علته، أو الحكم على سببه.

وقوله تعالى: (في جنات النعيم): نوع بيان لما تقدم من وصف التقريب، وهو يشير إلى التقريب حسا لقرينة ذكر الظرف المحسوس وهو الجنات التي جاءت مجموعة مضافة إلى النعيم المحلى بـ: "أل" الجنسية الاستغراقية لعموم ما دخلت عليه، فهو نعيم بمعنى النعم التي لا تعد ولا تحصى، فقد بلغت الغاية في القدر والوصف، فهي أكثر من نعم الدنيا بداهة، بل إن نعم الدنيا ما خلقت إلا للتذكير بها فليس من الآخرة في الدنيا إلا الأسماء، كما أثر عن ابن عباس رضي الله عنهما، فالاختلاف في الحقيقة عظيم، وإن اشترك الجنسان: نعيم الدنيا ونعيم الآخرة في المعنى الكلي المشترك في الذهن، فشتان الحقيقتان في الخارج، فتكون الإضافة من هذا الوجه آكد في مقام الامتنان على المقربين ببيان محلهم الحسي في الجنان ذات النعم العظام، فالإضافة في: "جنات النعيم": إضافة ظرف إلى مظروفه، بينما الإضافة في نحو قوله تعالى: (جنة الخلد): إضافة موصوف إلى صفته، فهي جنات خالدة، وأهلها فيها خالدون فلا تتحول عنهم ولا يتحولون عنها، وذلك أبلغ في بيان عظم الثواب، وبالإضافتين إلى النعيم، وإلى الخلد، تكتمل المنة الربانية، على أهل الإيمان بسكنى جنان الرحمن التي اكتمل نعيمها وامتد زمانها فهي إلى أبد الآبدين، فلا تفنى، ولا يفنى نعيمها، ولا يفنى أهلها، فكل باق بإبقاء الرب الآخر، جل وعلا، له.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير