وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ: فذلك كمال المطعم، وزيد في مبنى فعل الاشتهاء مئنة من المبالغة في التنعم، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، وفي السياق ملائمة بين فعل التخير والفاكهة، إذ الفاكهة مما يلتذ بها الإنسان بتخير أجود أصنافها، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، ولا يكون ذلك إلا بعد كسر شهوة النفس بالمطعوم من اللحم والخبز والبقول ونحوه، بينما المعطوم يلائمه فعل الاشتهاء، فتشتهيه النفس ابتداء لكسر حدة الجوع، فوجه الاختيار فيه غير ظاهر، إذ التخير إنما يكون بعد زوال الاضطرار، ولذلك يقبل الجائع على الطعام فيرضى إذا اشتد جوعه بما لا يرضى به إذا كان شبعانا، فعندئذ يظهر الاختيار لزوال الاضطرار، وأما المضطر فكل الأصناف عنده مشتهاة فلا يحتاج إلى أي مشهيات من مقدحات أو مخللات ... إلخ!، واسألوا أهل الابتلاء الخاص في الأنفس بجوع عارض، أو أهل الابتلاء العام كحال الموحدين المحاصرين في كثير من الأمصار، وأقربها: غزة، فك الله حصار أهلها، فليس عندهم من الاختيار من الأصناف المتعددة ما عندنا!.
والشاهد أن النفس إذا شبعت تطلعت إلى ما يلتذ به من صنوف الحلوى والفاكهة، فتزهد في المطعوم الذي يسد الجوع، وتطمع فيما يترفه به، وهذا أمر يعم الغذاء المحسوس، والغذاء المعقول، فالنفس، أيضا، تطلب حظها من غذاء الروح فإذا تغذت بعلوم النبوات: مادة الوحي المريء، زهدت فيما عداه من الغذاء المحدث الوبيء، فإن اشتاقت إلى ما تترفه به تسلت بلطائف العلم، ولذلك كان بعض أهل العلم كابن سيد الناس، رحمه الله، إذا انتهى مجلس الدرس دعا بما يخف على النفس من كتب التاريخ والأسمار ففيها المتعة بعد دسم العلم، وفيها العظة والعبرة فلا تخلو من فائدة. وعلى العكس إن امتلأت بغذاء فاسد من ملة أو نحلة باطلة، زهدت كما يقول بعض المحققين كابن تيمية رحمه الله، في الغذاء النافع.
و: حُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ: فذلك كمال المنكح وأطنب في وصف نساء الجنة على ما اطرد من الإمعان في بيان أوجه المنة بتعداد أوصاف النعمة على جهة الكمال المطلق، وفيه، أيضا، تسلية لكثير من الصابرين في زماننا، فما فات قد يستدرك على وجه أكمل إن امتن الرب، جل وعلا، بسكنى الجنان!.
وما سبق: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ: فالباء للسببية لا للعوض، على ما تقرر في مثل هذه المواضع إذ لا تعدل طاعة العمر كله مهما تطاولت أيامه نعمة واحدة في الدنيا على ما يعتريها من النقصان والفناء، فكيف بنعم الآخرة وقد بلغت الغاية في الكمال فلا نقصان في وصفها ولا انقضاء لأجلها.
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا: فتكرار النفي مئنة من التوكيد فلا لغو فيها بباطل ولا تأثيم باللوم والإنكار بنسبة القائل إلى الإثم على ما اطرد في كلام الصرفيين من دلالة: "فعَّل" بتشديد العين على نسبة الفاعل إلى أصل الفعل كفَسَّق وأَثَّم ....... إلخ، فلا لغو يصدر من القائل ولا لوم يتوجه إليه، وذلك أبلغ ما يكون في سلامة اللسان والأذن من سيئ القول الصادر من القائل أو من غيره فلا ينطق إلا بخير ولا يسمع إلا خيرا.
وجاء الاستثناء: إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا: منقطعا إذ السلام ليس من جنس اللغو والتأثيم، فذلك وجه انقطاعه، كما قرر النحاة، وهو جار، كما يقول صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، مجرى تأكيد المدح بما يشبه الذم، فالاستثناء مشعر بأن الأمر قد لا يخلو من لغو أو تأثيم فجاء المستثنى على الضد من ذلك، فكان ذلك أبلغ في تقرير المدح وحصول المنة بكمال الوصف.
وشاهده من كلام العرب قول النابغة:
ولا عيب فيهم غيرَ أنّ سيوفهم ******* بهن فلول من قراع الكتائب
فلا عيب فيهم بل المستثنى مزيد بيان لكمال حالهم.
وجعلها أبو السعود، رحمه الله، مما اصطلح على تسميته في المنطق بـ: "السالبة لا تقتضي وجود الموضوع" من قبيل:
ولا ترَى الضبَّ بها ينجحِرُ
فلا تراه يدخل جحرا وإن كان لا جحر فيها أصلا، فذلك أبلغ في النفي، فلا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما، وإن كان لا لغو فيها أصلا ولا تأثيم.
والله أعلى وأعلم.
¥