تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ: فالظرفية مئنة من الإحاطة، وذلك أبلغ في الإهانة في مقابل: (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ ............ )، فالظرفية مئنة من الإحاطة، أيضا، ولكن في معرض الكرامة، فذلك مما يشهد لمعنى المقابلة بين أوصاف النعيم وأوصاف الجحيم، فالمقابلة بين الأضداد على جهة الاقتران، أمر قد اطرد في التنزيل، كما قرر ذلك الشاطبي، رحمه الله، فوعد يعقبه وعيد، ونعيم يعقبه جحيم، وثناء يعقبه ذم ...... إلخ، ونكر السموم، وهو الريح التي لا بلل فيها، والحميم وهو الماء الساخن الذي يقطع الأمعاء، كما في قوله تعالى: (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ): فذلك من بيان مجمل صورة التعذيب بالحميم في هذا الموضع، كما تقدم مرارا من بيان مجمل التنزيل بمبينه، فنكرا تعظيما فذلك من النكاية بمكان، وهو أليق، بداهة، بسياق الوعيد تنفيرا مما يؤدي إليه، وظل من يحموم، وهو الدخان الأسود، و: "من" بيانية فالظل نفسه من الدخان، فهو ظل كلا ظل، فذلك من التهكم بهم، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فالظل مظنة التنعم فتتلهف إليه النفس لا سيما مع طول المعاناة بالسموم والحميم فإذا به ظل عذاب، فتكون المرارة أعظم، وذلك، أيضا، جار مجرى المقابلة مع ظل المؤمنين: (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ).

وأطنب في نفي أوصاف الحسن عنه بتكرار النفي: (لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ)، فذلك من التوكيد، إمعانا في النكاية بانقطاع أملهم من أي خير ينالهم منه.

ثم جاء التعليل: (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ):

فصدرت العلة المركبة من أكثر من وصف استحقوا به الذم، صدرت بالمؤكد، فذلك مئنة من التعليل، ويؤيده الفصل، فلا عاطف، كما اطرد مرارا من شبه كمال الاتصال بين العلة والمعلول، وفعل الكينوية مئنة من الديمومة، وذلك آكد في لحوق الذم بهم، واستحقاقهم العذاب، فكان حالهم المطرد فلا انقطاع له في الزمن الماضي، كان حالهم الترف مع الإصرار على الكفر، فـ: "أل" في: "الحنث" عهدية تشير إلى أعظم أنواعه، وهو الكفر والوصف بالعظم يؤيد ذلك، فإنه لا أعظم من الكفر والشرك ويؤيده من سياق آخر:

قوله تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، وقد يقال بأن: "أل": جنسية استغراقية لأنواع الحنث، فتشمل الكفر وما دونه فقد تنوعت معاصيهم، بل إن فساد الأصل، بوقوع الخلل في الاعتقاد يؤدي لزوما إلى فساد العمل فتتعدد صور العصيان، على ما اطرد مرارا، من التلازم بين الظاهر والباطن، فمتى فسد أصل الاعتقاد في القلب بالتصور الفاسد تولد عن ذلك من الإرادات القلبية الفاسدة ما تولد، فظهر أثر هذا الفساد العلمي والعملي الباطن على الظاهر، فالتلازم بينهما تلازم عقلي وثيق.

وكانوا مع ذلك يتهكمون بالاستفهام في معرض الإنكار والإبطال لبعثهم وبعث من تقدم من آبائهم: (وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ). وقد جاء الإطناب بذكر ما بعد الموت والبلى من صيرورة الجسد المتحرك الحساس النامي عظاما ورفاتا، مئنة من عظم استبعادهم للبعث بعد الموت، وهو ما جاء الرد عليهم بالاستدلال بقياس الأولى في مواضع أخر من التنزيل: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)، وفي هذا الموضع بعينه: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ)، فقد علمتم النشأة الأولى، وهي أعسر من الإعادة، وكل على الرب، جل وعلا، هين، ولكنه جار مجرى التنزل مع الخصم في الجدال، فكيف تستبعدون الإعادة، وهي الأهون، فمن قدر على الأعلى قدر على الأدنى بداهة، فذلك وجه قياس الأولى في هذا النوع من الاستدلال على وقوع البعث، فهو لمن تأمله ضرورة شرعية فهي مما اتفقت عليه النبوات، فجاء

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير