تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ذكرها متواترا في سائر الرسالات، وضرورة عقلية، فلا بد من دار بعد هذه الدار توفى فيها كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون فذلك العدل بعينه، والعدل قيمة إنسانية فطرية وقع إجماع العقلاء على استحسانها.

والترف في حد ذاته ليس سببا للعذاب، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فكم من مترف منعم في الدنيا، وهو مع ذلك مؤمن مصدق بقلبه ولسانه وجوارحه، فيكون ذكره باعتباره: مظنة التكذيب والإعراض عن قبول الحق، فذلك حال أغلب المترفين الذين يخشون زوال ما هم فيه من النعيم العارض إذا امتثلوا حكم الوحي الشارع، مع أن الشرع لم يأت بنزع ملكيات البشر، كما فعلت الشيوعية الحمقاء التي قابلت الظلم بالظلم، وصادمت ما جبل عليه الإنسان من حب التملك والاستقلال، وسار على منهاجها، أذنابها في الدول الاشتراكية، التي روجت للشيوعية باسم الاشتراكية تلبيسا من جنس تلبيس إبليس بتسمية الأشياء بغير أسمائها الحقيقية كما يفعل مستحلو الخمر في زماننا فيسمونها بما قد علم من الأسماء المعاصرة، فذلك ترويج للخمر المحسوس، وأما الخمر المعقول من نحاتة أذهان الشرق الملحد والغرب العلماني الكافر فيروج لها بأسماء من قبيل: الاشتراكية، ثم اليسار، ثم حاول المضللون، كما أشار بعض المفكرين المعاصرين، الإمعان في الخداع فنسبوه إلى الإسلام، فصار يسارا إسلاميا بعد أن كان شيوعية إلحادية، فذلك من التلطف مع المخاطب!، لئلا يصدم بالحقائق، ومن قبيل: الديمقراطية: التي حققت بعض المكاسب العقلية والمادية للغرب المأسور آنذاك في قيد كهنوت الكنيسة، ولكنها في المقابل أخرجت معتنقها من عبادة أرباب الكنيسة إلى عبادة أرباب الهوى، فصيرت الهوى مصدر التشريع فما رآه حسنا فهو حسن، ولو خالف الأديان والأعراف، بل والفطر، كما هو الحال في الدول التي تقنن الفواحش المغلظة التي تأباها كل فطرة، ولو كان صاحبها طالبا للذة العاجلة، معرضا عن أي شريعة نازلة، فمن لا دين له، إن كان له بقية عقل وفطرة فإنه يأنف مما وقع فيه أرباب الديمقراطية الزائفة التي تستعمل حينا، وتعطل حينا، فيكون الخروج على الأخلاق والأديان حرية فكرية، ويكون الرجوع إلى الأديان وإظهار شعائرها خطرا على قيم الديمقراطية الغربية، فكيف لو حاول أصحاب هذا الفكر المتطرف!، إظهار أحكام الديانة وإقامة جماعة تأتمر بأمر الوحي؟!.

أو يقال بأن الترف بمفرده ليس بعلة كاملة لوقوع العذاب، بل قد انظم إليه ما تلاه من الكفر والمعصية والتكذيب بالبعث، فتكون العلة من قبيل العلة المركبة من أجزاء ورد ذكرها في الآيات الثلاثة المتعاقبة.

ووصف الترف من وجه آخر: حاصل لكل كافر في هذه الدنيا، وإن رق حاله، فما هو فيه من ضنك في الحياة الدنيا: نعيم بل ترف إذا ما قورن بجزائه في الدار الآخرة، فذلك وجه لطيف أشار إليه ابن حجر، رحمه الله، في سياق مناظرة له مع أحد فقراء اليهود في قصة معروفة.

فجاء الرد عليهم: (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ): فأطنب في إثبات ما أنكروه بذكر الأولين والآخرين في مقابل إنكارهم بعثهم وبعث آبائهم الأولين، وجاء الإثبات مؤكد بـ: "إن"، واللام الداخلة على الخبر: "لمجموعون".

ثم جاء الإطناب في بيان صور من عذابهم إمعانا في النكاية:

(ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ)، فجاء التوكيد مرة أخرى إمعانا في التهديد بالوعيد، فضلا عن كون النداء في سياق الذم يدل على نوع تهديد، وجاء النداء بأوصاف السوء، فذلك أبلغ في الإهانة، فالتكريم يكون بنداء الإنسان بأحسن أوصافه، وليس لهم من ذلك نصيب، فهم مكذبون ابتداء، فذلك فساد الاعتقاد، ضالون انتهاء فذلك فساد العمل الناشئ عنه، على ما اطرد مرارا من التلازم بين القول الباطن والعمل الظاهر صحة وفسادا.

ثم جاء التوكيد باللام: (لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ)، وفرع عنها بالفاء، وهي هنا سببية لعطفها وصفا على وصف، كما أشار إلى ذلك صاحب "مغني اللبيب" رحمه الله، فالوصف الثاني ناشئ عن الوصف الأول، فآكلون منها إلى حد الامتلاء، فذلك أبلغ في لحوق الأذى بهم من خبثها ونتنها، فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ: فيكون ذلك من النكاية في المشروب بعد ورود النكاية في المطعوم، فاستوفي الشطرين كما استوفاهما في حق الأولين من أصحاب النعيم في قوله تعالى في نعيم السابقين: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ)، وقوله تعالى في نعيم أصحاب اليمين: (وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ).

ثم أعيد الوصف: (فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) توكيدا في معرض الذم، كما أشار إلى ذلك صاحب التحرير والتنوير، رحمه الله، وجاء المصدر مبينا لنوع عامله، فشربهم شرب الهيم، وهو شرب الدابة التي لا ينقطع شرابها لحمى في أمعائها فلا تزال تشرب ولا تروَى مع ما يعانونه من ألم الحميم، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فذلك، أيضا، من الذم بمكان، ثم ختم السياق بالتهكم بهم فذلك ألم نفساني بعد سلسلة من الآلام الجسدية، فهذا نزلهم، فالتفت إلى الغيبة: "نزلهم"، تحقيرا من شأنهم، وجاء تصدير الكلام بالنزل وهو مظنة التكريم، فذلك جار مجرى الإهانة في نحو قوله تعالى: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ).

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير