تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وفي الآية من قياس الأولى ما يحتج به المستدل في معرض إبطال شبهة منكر البعث، فإن من خلق ابتداء قادر على الإعادة انتهاء، فذلك أهون عليه، ففعله له ثابت من باب أولى، فهلا صدقتم بالبعث اختيارا إذ أقررتم بالخلق الأول اضطرار فـ: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)، فلم ينكر ذلك إلا مسفسط جاحد لسان حاله شاهد بكذب مقاله.

أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ:

فتلك إشارة إلى أصل الإنسان المهين، وفيه إشارة إلى عظم قدرة الرب، جل وعلا، إذ أخرج الإنسان الكامل من هذه النطفة، ولذلك ناسب ذلك الحال الاعتباري الذي يعمل فيه العقل في المحسوس توصلا إلى المعقول، فيعتبر بما يدركه بحسه الظاهر من خلق النطف في الأصلاب، ثم قرارها في الأرحام لتصير علقة فمضغة .... إلخ، وكل ذلك مما تيسر إدراكه بالحس الظاهر، فصار ذريعة إلى إعمال الحس الباطن فيه تدبرا وتأملا، ليتوصل بذلك إلى أن إعادة الخلق أهون على الرب الخالق البارئ المصور، جل وعلا، من بدئه، وفي التنزيل: (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ)، فيبدؤه من العدم تقديرا في الأزل فبرءا في عالم الشهادة على ما قد قدر، فتصويرا لكل جنين في أحسن تقويم، فامتاز كل إنسان بصورة جينية باطنة وخلقية ظاهرة، فلا يشترك اثنان في صورة واحدة، وإن كانا توأمين متماثلين، فلكل صورته، ولكل سره اللطيف الذي يسري في بدنه الكثيف، فالملك قد نفخ في كل روحه، بإذن الرب العلي القدير، فلم تنفخ فيهما روح واحدة مع مسيس الاتصال بينهما في الرحم الواحد، فلا بد أن يستقل كل كائن بقدر فارق يميزه عن بقية الكائنات، ولو كانت من جنسه ونوعه، بل لو كانت قسيمته في الخلق الظاهر، فلكل توأم من التوأمين، ولو كانا متماثلين ما يمتاز به عن توأمه، فبينهما قدر مشترك، يزيد أو ينقص، فيزيد حتى يبلغ حد التماثل في الظاهر، وينقص شيئا إن كان التوأمان غير متماثلين، ويقل أكثر لو كانا أخوين متتاليين، ويقل أكثر لو كان أحدهما ذكرا والآخر أنثى، فلكل خصائصه وطبائعه الظاهرة والباطنة، ويقل أكثر وأكثر لو كانا متباينين، فلا نسب قريب أو بعيد بينهما، ويزيد أكثر باختلاف الأمصار والبيئات، فمن كان في مصر بارد فله من الخصائص البيولوجية والنفسية ما يلائمه، ومن كان في مصر حار فله أيضا من الخصائص ما يلائمه، فذلك من إتقان صنع الرب القدير الحكيم، جل وعلا، بأن أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، فأعطى الأوروبي خلقة تلائم برودة مصره، وأعطى الإفريقي خلقة تلائم حرارة مصره، وأعطى أهل الشرق خلقة تلائم اعتدال أمصارهم، فكان تنوع الخلق بإيجاد كل الأفراد والأجناس على هذه الهيئات المتقنات، فلكل خلقه الملائم لحاله، كما تقدم بيانه، فللذكر ما يلائمه من القوى والملكات التي يغلب عليها القوة في: البدن والعقل، وللأنثى ما يلائمها من الملكات التي يغلب عليها الضعف في البدن والقوة في: القلب لمكان الأمومة التي تقتضي عاطفة ورحمة، ومكان السكن الذي يقتضي لطفا ومودة، فتلك من آيات الرب، جل وعلا، في تنويع الملكات لتظهر حكمته في تكاملها لا تعارضها، كما يظهر في المجتمعات التي تبادل فيها الجنسان الأدوار، وتظهر قدرته في خلق المتضادات على نحو يقع به التكامل فينتظم أمر هذا العالم بما أجراه الرب، جل وعلا، من السنن الكونية المحكمة، ويظهر غناه إذ لم يفتقر إلى الصاحبة أو الولد كما يفتقر كل جنس إلى زوجه، فبفقر العبد يظهر كمال غنى الرب الذاتي، فالغنى وصف ذات لازم له، جل وعلا، أبدا، والفقر وصف ذات لازم أبدا للعبد، فبفقر العبد الذاتي إلى الصاحبة شهوة والولد استبقاء للأصل، يظهر غنى الرب، جل وعلا، الأول بذاته وصفات كماله.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير