تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إلا لعارض من نفاق أو إكراه، وذلك خروج عن الأصل فلا يقاس غيره عليه.

ثم جاء الاستفهام في معرض التحدي واستنطاق الخصم بالحجة: (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ)، فلم يدع عاقل خلق النطف والأجنة إلا أن يكون مختل العقل فاسد المزاج.

وفيه من قياس الأولى ما يبطل قياسهم الفاسد فقد قاسوا الغائب على الشاهد مما يرونه من فناء الأجساد، فجعلوا ذلك ذريعة إلى إنكار البعث والنشور، ولو قاسوا ذلك على خلقهم من النطف المذرة لكان ذلك أنفع لهم في تقرير أمر البعث، بطريق الأولى، فمن خلق ابتداء، كما تقرر، مرارا، قادر على البعث انتهاء، وتلك من إشارات صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله النافعات.

وقدم المسند إليه في معرض الإنكار إمعانا في التوكيد على ما اطرد من كلام البلاغيين من تقديم المسند إليه: (أنتم) وتأخير المسند: (تخلقونه)، إذا كان فعلا.

نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ: فقد قدر الرب، جل وعلا، الموت والحياة، أزلا، وجاءت استعارة معنى التقسيم للأمور المادية لأمر الحياة والموت المعنوي. وما الله، عز وجل، بعاجز عن أن يستبدلهم بأمثالهم، فسنة الاستبدال من السنن الكونية الجارية، وفي التنزيل: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ).

أو هو من قياس الأولى، فإن من أبدعهم ابتداء، قادر على إنشائهم انتهاء، فهو القادر، عز وجل، على أن ينشئ أجسادا أخر يودع فيها أرواحهم فتتنعم أو تتعذب فيها، فإعادتهم، كما تقدم، أهون من إنشائهم ابتدا، فإعادة الخلق وجمعه أهون من إنشائه وبدعه.

وقدم المسند إليه وأخر المسند الفعلي الذي نسب عامله إلى ضمير الفاعلين مئنة من التعظيم، على ما اطرد من دلالة التخصيص، ففيه مزيد عناية ببيان تقديره، عز وجل، لأمر الموت والحياة، فهو المنفرد بتقدير الآجال، وإنما تجري الأسباب على وفق ما قد قدر أزلا، فدلالة التخصيص في هذا الموضع تنفي نسبة الفعل إلى غيره على تقدير، نحن لا غيرنا قدرنا بينكم الموت، وتنفي اشتراك غيره، تبارك وتعالى، معه في ذلك، على تقدير: نحن وحدنا قدرنا بينكم الموت، فانتفى استقلال غيره بالفعل، وانتفى اشتراك غيره معه، فله، تبارك وتعالى، كمال الانفراد بالخلق تقديرا في الأزل وإيجادا في عالم الشهادة.

والنفي، كما اطرد في الكتاب العزيز، مراد لغيره فما نحن بعاجزين لكمال قدرتنا، فالنفي يتضمن إثبات كمال الضد كما اطرد في هذا الباب الجليل.

والرب، جل وعلا، هو المنشئ من العدم، فوصفه بالإنشاء من أوصاف أفعاله، عز وجل، فلا يطلق عليه المنشئ إطلاق الاسم، وإنما يطلق عليه إطلاق الوصف أو الخبر.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"وأما الإنشاء فإنما وقع إطلاقه عليه سبحانه فعلا كقوله: {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} وقوله: {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ} وقوله: {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} وهو كثير ولم يرد لفظ المنشئ وأما العبد فيطلق عليه الإنشاء باعتبار آخر وهو شروعه في الفعل وابتداؤه له يقول أنشأ يحدثنا وأنشأ السير فهو منشأ لذلك وهذا إنشاء مقيد وإنشاء الرب إنشاء مطلق وهذه اللفظة تدور على معنى الابتداء أنشأه الله أي ابتدأ خلقه وأنشأ يفعل كذا ابتداء وفلان ينشئ الأحاديث أي يبتدئ وضعها والناشئ أول ما ينشأ من السحاب". اهـ

"شفاء العليل"، ص218.

والله أعلى وأعلم.

ـ[مهاجر]ــــــــ[23 - 04 - 2010, 08:42 ص]ـ

ومن قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ)

فذلك جار مجرى ما تقدم من الرؤية التي تفيد التعجب، والمعنى: الحض على التبصر في حال النبات الذي تحرث له الأرض، فتقدير الكلام على جهة الحذف والإيصال كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله: أفرأيتم ما تحرثون له الأرض من النبات، فالاستفهام يفيد التوبيخ للغافل والإرشاد للعاقل، والحض على التدبر الذي جرى عليه السياق وفيه نوع زجر وحمل على التفكر يرجح معنى التوبيخ على ما اطرد مرارا من دلالة السياق على مراد المتكلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير