وقدم المسند إليه على المسند الفعل على ما اطرد مرارا من دلالة التخصيص والتوكيد، ووجه التدبر هو الجامع بين إنبات الزرع من البذر، وإنبات الجسد من النطفة، فضلا عن كون الإنسان باعتبار أصل نشأته نابتا من الأرض بل ناميا منها فإن كل ما يتغذى به يرجع في أصله هو الآخر إلى الأرض فـ: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى)، فـ: "من": ابتدائية، فضلا عن دلالتها الجنسية، فابتداء غاية الخلق من الأرض، والإنسان قد خلق من جنس التراب الذي هو مادتها، وكذلك القول في قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا): فابتداء غاية الإنبات من الأرض، وهو كائن من مادة الأرض الطينية.
ومن قوله تعالى: (لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ)
فلو شاء الله، عز وجل، لجعله حطاما، فمشيئته نافذة لا راد لها، فظلتم تفكهون إما:
حزنا، فيكون السياق جاريا على المعتاد من أحوال البشر الذين يندمون ولات ساعة مندم.
وإما أن يحمل التفكه على معنى التبسط فهو الأضداد، فيكون ذلك من التهكم بهم، فذلك في مقابل استهزائهم بآيات الله عز وجل، فالجزاء من جنس العمل.
وذلك مما يشهد لمن قال بعموم دلالة المشترك على كل معانيه، على سبيل الشمول، فاللفظ مع كونه من الأضداد، والأضداد مظنة الافتراق فلا تجتمع، إلا أن السياق احتمل كلا على وجه يفيد معنى جديدا، فكان الأولى حمله على معنييه، إثراء للسياق على ما اطرد من وجوب حمل ألفاظ التنزيل على كل الوجوه التي تفيد معان صحيحة فذلك من وجوه إعجازه اللفظي، إذ المباني قليلة والمعاني كثيرة.
أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ:
ثم انتقل إلى بيان المنة بإنزال الماء الذي تسقى به الأشجار التي تقدم ذكرها في معرض الدلالة على ربوبية الإيجاد من البذر والامتنان بالزرع والثمر، فهو مادة الحياة التي تباشر البذر فتستثيره فينمو في الأرض ضاربا وفي السماء عاليا، أو نجما ساجدا، فالماء مادة الحياة من جنسه خلق الأحياء وبه تحفظ الحياة النباتية النامية والحياة الحيوانية المتحركة، فجاء التذييل بالوصف بالموصول زيادة في الامتنان، ففيه تعليق للمنة بوصف الشرب فهو من آكد صور الانتفاع بالماء النازل، وذكر فرد من أفراد العام في معرض الامتنان لا يخصصه، فليس الماء النازل للشرب فقط بل منه ما هو لسقي الزرع، ومنه ما يعدن في باطن الأرض ومنه ما تسجر به البحار التي تجري فيها الفلك.
ثم جاء استنطاق الخصم بالجواب الذي يظهر به عجزه في مقابل قدرة الرب، جل وعلا، فهو عاجز عن إنشاء السحاب، وعاجز عن إنزال الماء الزلال منه، فالرب، جل وعلا، هو منشئ السحاب على جهة التجدد والاستمرار فهو من أفعال ربوبية التدبير للأحداث الكونية فينشئ السحاب ويجري به الرياح، فـ: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ).
لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ: ففيه طباق خفي يفيد بلطف معناه إلى عظم المنة الربانية، فالطباق بين الأجاج والعذب، والنازل من السماء عذب، فحصل الطباق في المعنى وإن لم يحصل في اللفظ، فلا طباق بين المزن والأجاج، وإنما الطباق يكون بين العذب والأجاج.
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ: ففيه انتقال من نعمة الزرع النابت إلى ما يتعلق به من إشعال النار على ما اطرد في الرؤية العلمية التي توجب التعجب من خلق النار من مادة الشجر الرطبة، على وزان قوله تعالى في معرض بيان قدرته الإيجادية: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ)، واستنطاق الخصم بالجواب بسؤال توبيخي تقريعي، ثم جاء النص على وجه المنة فـ:
¥