تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ: على ما اطرد من التخصيص بتقديم المسند إليه وتأخير المسند الآتي على حد الفعل، فاتصل به ضمير راجع إلى المسند إليه، فأفاد التوكيد بتكرار الفاعل: ظاهرا معنويا، فالمبتدأ فاعل في المعنى، ومضمرا لفظيا، وضمير الجمع، كما اطرد، أيضا، مئنة من تعظيم المنة الربانية في معرض التذكير بعناية الرب، جل وعلا، فعظمها من عظم جاعلها، عز وجل، فوصف الجعل تنقسم مادته إلى:

جعل كوني نافذ: وهو إما أن يكون في معرض الامتنان بأثر وصف جمال الرب، جل وعلا، عناية بعباده، كما في هذا السياق، وإما أن يكون في معرض الأخذ بالعذاب، فذلك من أثر وصف جلال الرب، جل وعلا، كما في قوله تعالى: (فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا).

وجعل شرعي حاكم: فلا يكون بداهة إلا من آثار وصف جمال الرب، جل وعلا، كما في قوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، فتكلم الرب، جل وعلا، به، على الوجه اللائق بجلاله، وأنزله، قرآنا عربيا، فالمنة حاصلة بإنزاله، وجمعه في صدر النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهو قرآن قد اقترنت سوره وآياته، بأفصح لفظ وأبلغ عبارة، ثم ذيلت الآية بعلة ذلك على ما تقرر مرارا من التلازم الوثيق بين الربوبية والألوهية، فلعل: تفيد التعليل في مثل هذا الموضع، كما ذكر ذلك الأخفش، رحمه الله، فتيسيره للذكر بتيسير تلاوته وتدبر معانيه لوضوح ألفاظه وعباراته، فإذا تيسر ذكره، وتيسر فهمه، وحصل عقل المعنى في الباطن، ظهر أثر ذلك لزوما من أعمال القلب من خشية وتوكل ورجاء ...... إلخ، وأعمال اللسان والجوارح، على ما اطرد مرارا من التلازم الوثيق بين: التصور العلمي الباطن، وما يتولد عنه من الحكم العملي سواء أكان باطنا: كسائر حركات القلب النافعة، أم ظاهرا كسائر حركات اللسان، وأعمال الجوارح.

فالعقل: عقل للمعاني بحصول صورة المعنى في الذهن، فبه تقام الحجة الرسالية على السامع، فذلك من جنس السمع العام الذي يدرك به المخاطب ألفاظ الحجة فتحصل معانيها في الذهن، وعقل تال لا يكون إلا لمن سدده الرب، جل وعلا، فعقل عن الرب، جل وعلا، خبره وحكمه الذي جاءت به رسله، عليهم السلام، فصدق الخبر وامتثل الحكم فذلك العقل النافع، الذي يختص به أعيان المسددين دون سائر المكلفين الذين اشتركوا في العقل العام الذي لا يكون تكليف إلا بوجوده فزواله زوال للتكليف ابتداء، كما قرر الأصوليون والفقهاء في شروط التكليف الشرعي، فهو من جملة أركان الاستطاعة الشرعية التي يتعلق بها التكليف فيتوجه إليها الخطاب بالتصديق، والأمر والنهي، بخلاف الاستطاعة الكونية التي يقع بها الفعل فهي قدر زائد من جنس السمع الزائد: سمع التصديق والامتثال، والعقل الزائد فهو أيضا: عقل الانتفاع بالتصديق والامتثال كما تقدم.

وناسب الجميع التعظيم بالإسناد إلى ضمير الفاعلين، وقد نكرت التذكرة تعظيما لقدرها، وكذلك المتاع فهو متاع لمن هو بأرض قفر، ولمن خلا بطنه من الطعام باعتبارها آلة الطهي فالقواء معنى كلي مشترك يدل على الفراغ، فحمله على كلا المعنيين: السير في الأرض القفر الفراغ، والبطن الفارغ، إثراء للمعنى إذ لا تعارض بينها، فهي إما أن تكون على جهة الاشتراك المعنوي في الأصل وهو مادة القواء أو الفراغ، وإما أن تكون على جهة الاشتراك اللفظي بالنظر إلى المعاني الفرعية إذ لا يظهر للوهلة الأولى معنى مشترك يجمع بين الأرض القفر والبطن الخاوية، ولا يمنع ذلك، أيضا، حمل اللفظ على كلا المعنيين إذ يحتملهما بلا تكلف، فضلا عما في ذلك من زيادة في تقرير المنة الربانية، فيكون ذلك جاريا على مذهب من يقول بعموم المشترك اللفظي عموما شموليا لا بدليا، فيشمل كل معانيه في سياق واحد لاحتماله إياها على نحو لا تكلف فيه، بل هو، كما تقدم، يزيد في المعنى ويثريه، وهذا اختيار صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير