تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ: فذلك تسبيح للرب الجليل، تبارك وتعالى، على ما تقدم في مواضع سابقة، من دلالة الاسم على المسمى في هذا الموضع بعينه، فالاسم للمسمى، فلا يقال بأنه عينه أو غيره مطلقا، بل لا بد من التفصيل لئلا يقع القائل في النفي والتعطيل، فمن أطلق القول بأن الاسم هو عين المسمى، فقد يقع في نفي الأسماء وما تتضمنها من صفات الكمال، فبتسوية الاسم بالذات التي يطلق عليها، تصير الأسماء كلها متماثلة من كل وجه، فيكون السميع هو عين البصير هو عين العليم ..... إلخ، فتؤول كلها إلى معنى واحد، ولازم ذلك نفي ما تضمنته من صفات الكمال، والصحيح أنها متماثلة من وجه دون وجه: فهي متماثلة من جهة دلالتها على الذات القدسية التي تطلق عليها، وهي متباينة من جهة دلالتها على الصفات التي اشتقت منها، فذلك ما أطلق عليه أهل العلم: "دلالة التكافؤ"، فيدل الاسم على كليهما تضمنا، فمن قال بالتسوية بين الاسم والمسمى من كل وجه، لزمه نفي دلالة الأسماء على الصفات، فتصير الأسماع عنده دالة على الذات فقط، فهي أعلام محضة، كالأسماء الجامدة التي لا تدل على معان، وإنما هي محض أعلام دالة على الذات، كاسم: الأسد والشجرة ........ إلخ، فهي أسماء أجناس محسوسة لا تدل على معان، فالأسدية والشجرية ليست معان اشتقت منها الأعلام الدالة على ذات الأسد وذات الشجر، فذلك وجه الجمود فيها، فالعلمية مظنة الجمود لدلالتها على ذات بعينها فذلك مظنة الخصوص، بخلاف المعاني فهي مظنة العموم، فالمعنى لا يحصر في ذات بعينها، بل هو بمنزلة الكلي المشترك الذي يوجد في جميع الأفراد على جهة التقييد، كمعنى العلم فإنه كلي مشترك يوجد في الذهن مطلقا، ويوجد في الخارج مقيدا فعلم زيد غير علم عمرو ..... إلخ، وإن كان المعنى الكلي في كلها حاصلا، فهي متواطئة من جهة تحقق المعنى الكلي فيها، فهو القدر المشترك بينها، وهي مع ذلك متباينة من جهة حقائقها في الخارج لوقوع التباين بين الأفراد في قدر العلم، فلكلٍ علم يخصه يباين علم غيره، وذلك أمر ثابت بالحس فهو من جملة العلوم العقلية الضرورية، ومن أطلق القول بأن الاسم غير المسمى، فإنه قد يتذرع بذلك، إن كان من أهل التجهم، إلى القول بخلق أسماء الرب، جل وعلا، كما قال ابن الثلجي، فتكون الأسماء الحسنى حادثة بعد أن لم تكن، والقول بخلق أسماء الرب، جل وعلا، يلزم منه القول بخلق الصفات التي تدل عليها، بل والذات القدسية التي تطلق عليها، فذلك من جنس مقالة القول بخلق القرآن، فإنه من كلام الرب، جل وعلا، وكلامه من وصفه، كالصفات التي اشتقت منها الأسماء، فيلزم من القول بخلق الصفة: خلق الموصوف، كما يلزم من القول بخلق الاسم: خلق المسمى به، فالمخلوق لا يوصف إلا بمخلوق، والمخلوق لا يسمى إلا بمخلوق، فالباب واحد في كليهما، ويلزم منه أيضا: القول بخلق القرآن، وما قال ذلك من قاله من أهل البدع إلا ليتوصل إلى هذا المعنى الفاسد، فإن جملة كثيرة من أسماء الرب، جل وعلا، مذكورة في الكتاب العزيز، فالقول بخلقها إثبات لخلق جملة كثيرة من آي التنزيل، فضلا عما يلزم من ذلك، أيضا، من نفي كمال الرب، جل وعلا، الأزلي، فكأنه لم يكن مسمى بما سمى به نفسه وسماه به رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الأسماء الحسنى، فهو المبلغ عن ربه، جل وعلا، فلم يسمه بها، كتسمية أصحاب المقالات الحادثة في الملل والنحل كمن سماه من النصارى أبا، وإن صح وصفه، جل وعلا، بذلك، من جهة أبوة العناية والتربية، فتلك من معاني ربوبيته، عز وجل، لعباده فيربيهم بنعمه شيئا فشيئا كما يتعاهد الأب ابنه بصنوف الرعاية الجسدية والنفسية، أو تسمية الفلاسفة له بالعلة الفاعلة، على ما اطرد من مقالتهم بنفي صفات الرب، جل وعلا، الفاعلة، وجعل ذاته القدسية: علة صدور الكون، فقالوا باقترانهما، فالعالم عندهم قديم، وذلك إشراك بالله، عز وجل، في صفة الأولية، فله الأولية المطلقة، فكان ولم يكن معه مخلوق، كما في حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، أو تسمية المتكلمين له بالقديم، فيصح الإخبار عنه بالقدم إن أريد بذلك وصف الأولية، فهو، كما تقدم، الأول مطلقا فليس قبله شيء، ولا تصح تسميته به لتوقيفية الباب، فهو كسائر الأخبار الغيبية لا يتلقى إلا من مشكاة النبوات الصحيحة التي لم تنلها أيدي التحريف، والشاهد أن هذا القول يلزم منه أنه، عز وجل، لم يكن مسمى بأسمائه الحسنى حتى أحدث لنفسه، أو أحدث له البشر أسماء مخلوقة، فيكون الكمال قد طرأ على ذاته القدسية بعد أن كانت عنه عرية، وذلك معنى في غاية البطلان، فهو من جنس من نفى أولية اتصاف الرب، جل وعلا، بصفات أفعاله التي بها كانت المخلوقات، فكان معطلا عن الفعل حتى طرأ عليه الكمال بمباشرته، فالأول: تعطيل لذاته القدسية عن الكمال في باب الأسماء، والثاني: تعطيل لها عن الكمال في باب الصفات، وصفات الأفعال تحديدا، وهي محل النزاع الرئيس بين أهل السنة والمتكلمين، والصحيح أنه، عز وجل، متصف بكمال الذات والأسماء والصفات أزلا وأبدا، فلم يكن معطلا عن اسم من أسمائه الحسنى أو وصف من أوصافه العلى ذاتيا كان أو فعليا، لم يكن معطلا عن شيء من ذلك ثم اكتسبه، بل هو الأول والآخر مطلقا: بذاته القدسية وما قام بها من الأسماء الحسنى والصفات العلى، فكلها داخلة في حد اسم: "الله".

وقد تعلق التسبيح بالرب، جل وعلا، لما تقدم من صور عنايته بعباده: العناية الكونية العامة، فذلك من ربوبيته التي تدل على ألوهيته لزوما عقليا وثيقا، والتسبيح من جملة أفعال التأله وجاء وصف الرب بالعظمة لما تقدم، أيضا، من أوصاف ربوبيته: إيجادا وعناية فهي مئنة من عظم ذاته ووصفه تبارك وتعالى.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير