تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الربانية للخالق، عز وجل، في مخلوق، لما تقدم من لزوم فناء الصفة بفناء المخلوق الذي تقوم به، فكل مخلوق فان لا محالة، إلا ما استثني في نحو قوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ)، وذلك خلاف الأصل فلا يقاس عليه، ووصف الرب، جل وعلا، أحق ما نفي عنه وصف المخلوقية، لما يلزم من ذلك من طروء وصف الكمال عليه، تبارك وتعالى، بعد أن كان عنه عريا، وذلك، كما تقدم، قول ظاهر البطلان لما يلزم منه من وصف الرب، جل وعلا، بالنقص قبل حدوث الكمال له بحدوث تلك الصفات، فذلك من قياس الخالق، عز وجل، على المخلوق، فالمخلوق هو الذي يكتسب الكمال من أفعاله، فيأتي الفعل ناقصا ثم يطرأ عليه الكمال بالمزاولة والمداومة، بينما الخالق، عز وجل، فعله كامل ابتداء، إذ قد صدر عن ذات وصفات كاملة، فلا نقص ابتداء ليجبر بتجربة أو محاولة، فذلك مما يتنافى مع قدرة وعلم وحكمة الرب، جل وعلا، فعنها تصدر الأفعال التي بلغت الغاية في الكمال: قدرة، فلا يعجزه، جل وعلا، شيء في الأرض ولا في السماء، وحكمة، فقد أحاط بكل شيء علما، فلا يقع الفعل إلا على أبلغ وجوه الحكمة، وإلى طرف من هذا الأصل في معرفة مراد المتكلم بحمله على العرف المعهود في زمانه ولسانه، إن كان عرفا عاما، ومصره أو صناعته، إن كان عرفا خاصا، إلى طرف منه أشار ابن تيمية، رحمه الله، بقوله:

"وإنما يحمل كلام الأنبياء عليهم السلام وغيرهم على معنى لغتهم التي جرت عادتهم بالتكليم بها لا على لغة يحدثها من بعدهم ويحمل كلامهم عليها". اهـ

"الجواب الصحيح"، (2/ 387).

فالعرف، كما ذكر جمع من المحققين، كابن القيم رحمه الله في "إعلام الموقعين"، يؤثر في الفتوى، لما للألفاظ من دلالة على المعاني المرادة إما باعتبار الدلالة الظاهرة البسيطة بالنظر إلى دلالاتها المعجمية الإفرادية وإما باعتبار الدلالة الظاهرة المركبة بالنظر إلى دلالتها السياقية التركيبية، فهي القوالب الظاهرة التي تحمل المعاني الباطنة، ولذلك كان للعرف أثر بارز في مسائل كالأيمان، فالقرينة اللفظية والحالية، أصل فيها، فمن أقسم على سبيل المثال على أنه لا يقرب اللحم، وكان عرف عصره أو مصره، إطلاق اللحم على لحوم الأنعام دون الدجاج والسمك وسائر أصناف اللحوم، فلا يحنث إن أكل لحما غير لحم الأنعام، بخلاف من كان عرفه الجاري، إطلاق اللحم على سائر أجناس اللحوم فيحنث بأكل أي لحم، فصار العرف مخصصا لدلالات الألفاظ، فيتصرف فيها إطلاقا أو تقييدا، تعميما أو تخصيصا، فهو من جملة القرائن التي تحتف بالألفاظ فترجح معان دون أخرى، وإن كان ظاهر اللفظ المجرد من القرائن السياقية والحالية يدل عليها، فالظاهر بما يحتف به من قرائن السياق والحال يصير نصا في معان بعينها دون أخرى، وكذلك الحال في باب الكنايات، فلكل زمان كناياته، وهي باعتبار ظاهرها المجرد قد لا تدل على المعنى المراد أصالة، ففيها ينتقل الذهن من الملزوم إلى لازمه، وتلك عملية عقلية ينتقل فيها الذهن من الظاهر البسيط إلى معنى آخر لطيف لا يدركه إلا من له علم بتلك الكناية ودلالتها المعنوية على وجه التعيين، كأن يكون من أهل اللسان والزمان، فكلامه يقع بما يوافق عرف زمانه وكناياته، أو يكون من أهل الاطلاع فله من الدراية بطرائق الكلام ووجوه الحقائق والكنايات ما يعرف به مراد المتكلم وإن لم يكن من أهل زمانه، ولذلك كان لأصحاب الصنائع العقلية أو الحسية من إدراك معاني صناعاتهم، ولو تقدمت على زمانهم، كان لهم من ذلك ما ليس لغيرهم، فالمحدثون على سبيل المثال، أعلم الناس بمراد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لكثرة مباشرتهم لكلامه، وإن تقدم زمانه على زمانهم، فإنهم بعكوفهم على الروايات المسندة إليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد حصل لهم صحبة، وإن لم تكن حسية بالجسد، فلهم صحبة معنوية بملازمة كلامه، ولذلك يتواتر عندهم ما لا يتواتر عند غيرهم، ولهم من ملكة التمييز بين الصحيح والضعيف ما ليس لغيرهم، فالكنايات تدخل في أبواب كثيرة من الفقه يتوقف فيها الحكم على عرف اللسان السائد، فباب الطلاق، على سبيل المثال، تتوقف جملة من أحكامه على

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير