تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ: فذلك وصف ثالث بالجملة المنفية، والمضارعة فيها مئنة من الثبوت والدوام، فضلا عن استحضار الصورة، فلا يمسه إلا الملائكة المطهرون، فيكون جاريا مجرى الخبر، وقد حمله بعض أهل العلم على الإنشاء، فلا يمسه إلا المطهرون من الحدث الأكبر والأصغر، على خلاف معروف في كتاب الطهارة، ولا مانع يمنع من حمل السياق على كلا المعنيين إثراء له بتوارد المعاني الصحيحة على الموضع الواحد، فيكون خبرا من وجه، إنشاء من وجه آخر، كما في ألفاظ العقود كـ: "بعت" فإنه باعتبار الإخبار عما في نفس البائع: خبر محض، وباعتبار الإنشاء لعقد البيع: إنشاء، وعلى كلا الوجهين جاء السياق مؤكدا بالنفي والاستثناء، فذلك أقوى أساليب القصر، وهو قصر حقيقي، وإن مسه غير المطهر، بل دنسه علوج الروم والفرس، فذلك لا يمنع توجه الخطاب الآمر لهم ولغيرهم، فهم مكلفون بهذا الفرع وبما لا يكون إلا به من الأصل المصحح للملة، فلئن وقعت المخالفة بمقتضى الإرادة الكونية، فالأمر ثابت بمقتضى الإرادة الشرعية.

تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ: فذلك وصف رابع، عند من يجوز تعدد الأخبار، فهي أوصاف في المعنى، أو هي جارية مجرى ما تقدم من تقدير مبتدأ لتلك الأخبار المتعاقبة، فهو تنزيل، نكر تعظيما، ومادته دالة على التكرار، فهو منزل، بفتح الزاي وتشديدها، باعتبار آحاده، منزل، بفتح الزاي وتخفيفها، باعتبار مجموعه، فنزل جملة واحدة إلى بيت العزة، فالتنكير قد يدل على تعدد مرات النزول من وجه، إذ النكرة مظنة العموم، فيشمل المرة وما زاد عنها من مرات الوقوع، وابتدأت غايته من رب العالمين، فذلك آكد في تقرير عظم وصفه، فعضم الصادر من عظم من صدر عنه، وعظم المنزل من عظم من نزل من عنده، وفيه إثبات لوصف الرب، جل وعلا، بالفعل على جهة التكرار، فإذا شاء أنزل من كلماته الكونيات ما ينتظم به أمر الكون، فبها تكون الأعيان والأفعال القائمة بها، وإذا شاء أنزل من كلماته الشرعيات ما تشفى به الصدور وتطمئن به القلوب.

والتنزيل من رب العالمين الذي له عموم وكمال أوصاف الربوبية، فهو رب العالمين على جهة العموم فلا مخصص له، والعالمين: جمع ما يعقل، فيكون ذلك من باب التنويه بالأعلى على الأدنى، فهو رب ما لا يعقل من باب أولى، فإن تدبير العاقل لأمره أيسر من تدبير غير العاقل، فلو جاز ادعاء خروج شيء من عموم ربوبيته، جل وعلا، لكان خروج العاقل أولى فهو أقدر على تدبير شأنه من غير العاقل، فلما كانت ربوبيته، عز وجل، إيجادا وإعدادا وإمدادا، ثابتة للعاقل على نحو لا يستطيع معه الاستغناء عن تدبير الرب، جل وعلا، فهو في حاجة إلى تدبيره الكوني، لبدنه، وتدبيره الشرعي لروحه، فذلك من ربوبيته، عز وجل، فالربوبية، كما تقدم في مواضع سابقة، تعم الملك للأعيان، والتدبير للأحوال، والأحوال إما كونية تختص بالبدن أو شرعية تختص بالروح، وهو تدبير كوني عام لكل الأبدان، وتدبير شرعي للأفراد في عقائدهم وعباداتهم، والجماعات في شرائعهم، فلا يستغني العباد عن الرب، جل وعلا، فافتقارهم إليه ذاتي لا يعلل، كما أن غناه عنهم ذاتي لا يعلل، والفقير يحتاج إلى عطاء الغني بداهة، فإن ادعى فرد أو جماعة استغناءه عن القدر الكوني كالشيوعيين الملاحدة، أو القدر الشرعي كالعلمانيين الذين عطلوا الشريعة الخاتمة، فصيروا الدين رهبانية، فلا حكم له في الشأن العام، وإنما غايته أن يحكم الشأن الخاص، تصورا علميا وشعائر تقام في أوقات بعينها، فليس حكما على الحياة بقيده العاصم، وإنما الحياة هي الحاكمة عليه، وليس لأحد على الكتاب سلطان، وإنما السلطان للكتاب العزيز، فالوحي حاكم على التصورات والإرادات والأفعال، فلا يخضع لهوى أو ذوق، وإنما تخضع له الأهواء والأذواق، فإذا كانت ربوبيته للعقلاء قد بلغت هذا الحد من العموم والكمال، مع كونهم ذوي قوى وإرادات، فكيف بغير العاقل حيا كان أو جمادا، فافتقاره إلى الرب، جل وعلا، ليدبر شأنه، ثابت من باب أولى، فنص على ربوبيته، جل وعلا، للعقلاء، مع عموم ربوبيته للعقلاء وغير العقلاء، فذلك من تفسير العام بذكر فرد من أفراده تنويها بشأنه، فربوبيته، عز وجل، للعقلاء

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير