تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

و: "أل" في الحديث عهدية تشير إلى الكتاب العزيز، وقد دل التنزيل على ذلك في مواضع أخرى من قبيل قوله تعالى: (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ)، وقوله تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ)، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، ويرجحه تقدم ذكره، كما تقدم، فجاء الاستفهام توبيخيا: أفبهذا الحديث أنتم مدهنون، فمحل التوبيخ جملة: (أنتم مدهنون)، واسميتها مئنة من الثبوت، فذلك وصفهم اللازم، وذلك آكد في تقرير المذمة المقتضية للتوبيخ، والإدهان محمول على ثلاثة معان أشار إليها صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فقد يحمل على:

إظهار خلاف الباطن، فذلك من قبيل قوله تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا).

والإلانة في موضع تحسن فيه الشدة، فمادة "دهن" كما في "اللسان" مادة تدل على الشيء اللين، فالدُّهن هو: المطر اليسير الذي يبل وجه الأرض، وقوم مُدَهَّنون بتشديد الهاء عليهم آثار النِّعَمة، فذلك مئنة من الترف واللين الذي لا يلائم هذا الأمر، فهو جد ليس بالهزل، فقد أمر الأنبياء عليهم السلام بأخذه بقوة: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ)، وأمر العباد بأخذه بقوة: (خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، فمن أخذه لاعبا لاهيا فذلك مئنة من ضعف نفسه واستفال همته، فلا يعرف لهذا الأمر قدره إلا من عظمت نفسه وعلت همته، ولذلك كان الصدر الأول، رضي الله عنهم، خير طباق هذه الأمة، بل خير طباق الأمم بعد أنبيائها، عليهم السلام، فقد علموا ما لهذا التنزيل من القدر والحق، فقاموا به خير قيام، فقامت به الألسنة تلاوة، وقامت به الأبدان في جوف الليل، وفي سائر أحيان الدهر، فالجوارح بحكمه مقيدة، والخواطر بتلاوته وتدبر معانيه مكفوفة، فالمحل قد عمر بالتنزيل فلا مكان فيه لوساوس الشياطين، فلم يكن في خلقهم لين أو تهاون فيما يختص بأمر الديانة، وبذلوا مع ذلك الدنيا تأليفا للقلوب فهم ألين الناس في أمور المعاش بيعا وشراء فـ: (رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى).

فالشاهد أن الدهن، كما ذكر صاحب "اللسان" رحمه الله، مادة كلية تدل على اللين، فمنه المحسوس كالدهن المعروف وكالمطر الرقيق الذي يبل وجه الأرض، ومنه المعقول فيختص بالطبع، فمنه الممدوح إذا كان في أمر الدنيا، ومنه المذموم إذا كان في أمر الدين، فلا يلائمه، كما تقدم، إلا الجد في غير حدة أو تنطع، فـ: (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ).

فمن الإدهان المذموم: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ)، فالمداهنة مذمومة إذ فيها يبذل الدين، فتلك تقية مذمومة تحمل صاحبها على الغش والنفاق، بخلاف الملاينة والمداراة ففيها تبذل الدنيا، وعليه حمل أهل العلم قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "ائْذَنُوا لَهُ فَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ أَوْ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ"، فبذل صلى الله عليه وعلى آله وسلم الدنيا، ولم يبذل الدين دفعا لسوء خلق ذلك الداخل عليه، فذلك، عند التحقيق، من كمال حكمته وخلقه صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيدفع شره بالكلمة الطيبة، فذلك من كمال الحكمة، ويؤلف قلبه بها فذلك من كمال الخلق.

وفسر الإدهان بالتكذيب، فيكون ما بعده مفسرا له، فقدم بالإجمال ثم ثنى بالبيان: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ).

فيكون ذلك من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه على تقدير: وتجعلون شكر رزقكم، فالرزق مظنة الشكران، والسياق سياق إنكار على المكذب الذي قابل النعمة بالتكذيب، فتلك قرينة تدل على المحذوف المقدر، وجاء المضارع مئنة من تجدد هذا الفعل القبيح منهم، فهو خلق لازم لهم، وذلك آكد في تقرير المذمة، وجاء المفعول الثاني لـ: "جعل": مصدرا مؤولا من: "أنَّ" وما دخلت عليه، فذلك آكد في تقرير المعنى من المصدر الصريح، فيؤول المعنى إلى: وتجعلون شكر رزقكم التكذيب والإعراض، وكان الأولى شرعا وعقلا، أن يكون شكره التصديق والامتثال، فكفر

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير