تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

النعمة مستقبح بأصل الوضع قبل مجيء الشرع، فكيف إذا انضم إليه الشرع الصحيح المؤيد لقياس العقل الصريح، فمقابلة النعمة إنما تكون بشكر المنعم لا بالتكذيب والجحود، والشكر، كما تقدم في مواضع سابقة، معنى يعم: القول والفعل، فيشكر الإنسان بقلبه عرفانا ومحبة، ويشكر اللسان لفظا، ويشكر البدن عملا بما يرضي المنعِم، وفسر الرزق بالشكر، فلا حاجة على هذا التفسير إلى تقدير محذوف، فالأصل عدم الحذف، وتلك لغة أزد شنوءة، وفي ذلك إشارة لطيفة إلى أن عموم قول عثمان رضي الله عنه: "إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا ذَلِكَ"، مخصوص بمواضع يسيرة من التنزيل نزلت بغير لسان قريش، وذلك مما حمل عليه حديث نزول القرآن على سبعة أحرف، فقد نزل بحرف قريش، فذلك العموم، وجاءت بعض ألفاظه بأحرف قبائل أخر اختلف في تعيينها، فذلك الخصوص، وفسرت الأحرف السبعة بأنها أحرف قبائل أخر في مواضع من التنزيل يقرأ فيها اللفظ بأكثر من وجه، تيسيرا على العرب حتى تعتاد ألسنتهم على القراءة بلسان قريش، فكلها من الوحي، وإن اختلفت مبانيها اللفظية، فقد أنزلت رخصة، ثم زال سببها، بل صار بقاؤها مظنة الاختلاف، فرأى عثمان، رضي الله عنه، جمع الناس على لسان قريش، اللسان الأم، فتواتر النقل به، وذلك قدر كاف لحفظ التنزيل من التبديل أو التحريف، فاندثرت بقية الأحرف، وتواتر الحرف القرشي الذي نزل به الرسول الملكي على قلب النبي العربي القرشي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكان ذلك من رحمة الرب، جل وعلا، بهذه الأمة لئلا تختلف كما اختلفت الأمم من قبلها لما تعددت أناجيلها، فصار ذلك مادة شقاق ونزاع لا زالت آثاره إلى اليوم كائنة، فالاختلاف في الكتاب ذريعة إلى الاختلاف في القلوب، والاختلاف في القلوب ذريعة إلى الاختلاف في الأقوال والأبدان، فيقع التراشق بالألفاظ: تكفيرا وتبديعا، كحال أصحاب المقالات الحادثة في الملل والنحل، ويقع التقاتل بالأبدان، فذلك من التلازم الوثيق بين الباطن والظاهر، فاختلاف القلوب لاختلاف العقود ولاء وبراء مؤد حتما إلى اختلاف الألسنة والأبدان تدافعا، فتلك سنة الرب، جل وعلا، في خلقه، فبها تظهر آثار أسمائه الحسنى وصفاته العلى، فالأمة المرحومة قد وقيت شر القضاء بالاختلاف في حروف التنزيل، وإنما وقع الاختلاف فيها في تأويله، فأصحاب المقالات الحادثة قد حملوا نص الكتاب العزيز على وجوه من التأويل بعيدة، فنظروا فيه نافلة، فما شهد لهم ظاهره أخذوا به، وما شهد عليهم ردوه إن لم يكن من الوحي المتلو، فردوا جملة كثيرة من أخبار السنة: الوحي غير المتلو، أو أولوه بما يوافق أهواءهم وأذواقهم إن كان من الوحي المتلو.

ومع ذلك سلم لهم الحق فأهله هم السواد الأعظم، فالمقالات، وإن تكاثرت، ليس لها من الظهور ما لمقالة الحق، التي تواطئ الفطر السوية والعقول الصريحة، فلا تحتاج تأويلا مركبا لا يدركه إلا الأذكياء، بل هي من الوضوح والبيان بمكان، فعموم المسلمين عليها، وإن لم يصرحوا بذلك، بل عموم البشر عليها حال الولادة قبل تبديل الفطرة الأولى فـ: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِه"، فليس في أخبار النبوات ما تحيله العقول أو تنكره القلوب، وليس في أحكامها ما يعارض قياس العقل الصريح، وإنما جهل ذلك من جهله من أصحاب المذاهب الردية: علمية كانت كأصحاب المقالات من سائر الملل المبدلة والنحل المركبة، أو عملية: كأصحاب المذاهب الأرضية النابتة في عقول كاسدة، قد جهلت إحكام النص، فعدلت عنه إلى اضطراب القياس المقابل له، فكل قياس في مقابلة النص فهو فاسد الاعتبار وإن كان صاحبه أذكى الأذكياء، فذلك نبت خبيث، لا كما صوره أنبياء العلمانية بقول أحدهم: "ودولة لا تلد علم حقوقها بنفسها وتقول في قانونها: "إنها نزلت من السماء لا تتبدل"، فما هي بدولة أصلا، ولا يكون لها استقلال، والأرض لا تحمل موجودا غير متبدل". فجعل مقياس التمدن: إقحام العقل فيما لم يخلق له، فما خلق العقل إلا ليتدبر وينظر في آيات الشرع والكون،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير