تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فهو آلة التكليف، فليس من شأنه أن يقيس غائبا على شاهد في العلميات، أو يشرع تحليلا وتحريما في العمليات، فذلك منصب النبوة الذي يخضع له العقل، فهو التابع له السائر على هديه، فلا يقوى على منازعته لقصور إدراكه واضطراب قياسه، فما استحسنه عقل استقبحه آخر، وما أحله عقل حرمه آخر، فلا يفصل بين تلك الأهواء والأذواق المتنازعة إلا كتاب نازل من السماء، به يحصل الهدى والبيان، من العليم الخبير بأحوال عباده، فلا يعلم ما يلائم عقولهم من الأخبار وجوارحهم من الأعمال إلا من خلقهم، فـ: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).

وأشار صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، إلى وجه لطيف، في سبب نزول هذه الآية لا يخلو من وجه بلاغي، إذ قد جاء تفسير الشكر بالتكذيب بأنه: نسبة المطر إلى "الأنواء"، فيقول القائل: مطرنا بنوء كذا كذا، كما في حديث زيد بن خالد الجهني، رضي الله عنه، وزيد في صحيح مسلم، رحمه الله، من رواية ابن عباس، رضي الله عنهما، أن ذلك كان سبب نزول قوله تعالى: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)، وسورة الواقعة: مكية، وصلح الحديبية الذي نسب سبب نزول الآية إلى نزول المطر فيه، قد وقع بعد الهجرة، فرجحت رواية زيد بن خالد الجهني، رضي الله عنه، لأن زيدا كان حاضرا ولم يذكر نزول الآية، بينما كان ابن عباس، رضي الله عنهما، صغيرا سواء قيل بأن الآية مكية، فيكون قد تحمل ذلك عن صحابي آخر، فذلك من مرسل الصحابي، ورواية الصحابي الذي حضر الواقعة أرجح من رواية من أرسل عن صحابي آخر، فذلك وجه الترجيح، وقد يجاب عن ذلك بأجوبة منها:

أن الآية مدنية، فلا يلزم من وصف السورة بأنها مكية أن كل آياتها: مكية، فذلك وصف أغلبي، كما ورد في سبب نزول قوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ)، فهي آية مدنية بقرينة سبب نزولها، والسورة، وهي سورة هود، مكية، فحمل ذلك على أنها آية مدنية وردت ضمن سورة مكية، فوصفها بالمكي: وصف أغلبي، فترجح رواية ابن عباس، رضي الله عنهما، من هذا الوجه، فقد نزلت الآية متأخرة لما نزل المطر في صلح الحديبية.

أو: أن ذلك قد وقع في مكة ابتداء، فنزلت الآية في مكة، ثم تكررت الواقعة في صلح الحديبية، فاستشهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بهذه الآية، فلا يلزم من ذلك أنها نزلت في زمن صلح الحديبية، وإن ورد ذكرها في واقعة نزول المطر فيه، فذلك من قبيل استشهاد الفقيه بالآية أو الحديث إذا ورد سبب ذلك في فتوى حادثة فهي ثابتة قبل استشهاده بها بداهة. ويرد على ذلك أن القول بأن ذلك قد وقع في مكة: احتمال ممكن فيفتقر إلى دليل مرجح يثبته، فلا يكفي لإثباته مجرد الاحتمال، فباب الاحتمالات باب واسع.

أو: أن الآية قد تكرر نزولها في مكة في واقعة نزول المطر التي سبقت الإشارة إلى احتمال وقوعها، وفي الحديبية، كما قيل في نزول سورة الفاتحة فقد ورد أنها نزلت في مكة، ثم نزلت ثانية في المدينة، وكذلك قيل في سورة الإخلاص، وقد جوز ذلك الزركشي، رحمه الله، وأجاب بعض أهل العلم بأن ذلك خلاف الأصل، فالأولى جعله جاريا مجرى الاستشهاد لواقعة تالية بآيات قد سبق نزولها.

أو: أن قول ابن عباس، رضي الله عنهما، نزلت هذه الآية في كذا، محمول على الاستشهاد بها في واقعة بعينها، كما أثر عن ابن عمر، رضي الله عنهما، في سبب نزول قوله تعالى: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ): نزلتْ في إتيان النساء في أدْبارهنّ، أي في تحريم إتيانهن في أدبارهن، فقوله: نزلت في كذا: أي في حكمها، فلفظ الآية العام يشمل واقعة نزول المطر في صلح الحديبية، وكل واقعة تماثلها تقدمت أو تأخرت، فيكون تفسير ابن عباس، رضي الله عنهما، من قبيل تفسير العام بذكر فرد من أفراده، فلا يخصصه، كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارا، فذلك تحجير لواسع، بقصر اللفظ العام على معنى خاص، بلا مخصص معتبر، وتوسيع دائرة اللفظ ليعم معان كثيرة أليق بالتنزيل ففيه من إثرائه بتوارد المعاني الكثيرة على مبانيه ما يظهر فيه وجه

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير