تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بمعنى الرحمة، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فمنها الروح الكوني الذي تقوم به الأبدان، ومنها الروح الشرعي الذي تقوم به الأرواح المخلوقة، فتلك من جملة رحماته الخاصة، فلا تظهر آثارها إلا على البر، فهي الروح التي أوحى بها الرب، جل وعلا، إلى نبيه: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، فهي روح من أمره الشرعي بكلمات شرعيات نازلة على قلب خاتم المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وسلم بلسان عربي مبين، كما أن الروح المخلوق وما يحتف بالبدن من الرحمات الكونية من أسباب الحياة من أمره الكوني النافذ، فمن أمره ابتدئت غايات الشرع بكلمات الكتب المنزلة، ومن أمره ابتدئت غايات الكون فخلقت الأرواح وأجريت الأرزاق بالكلمات الكونيات النافذة، فالأرواح كلها منه صادرة، مخلوقة كانت كالأرواح التي بالأبدان، أو غير مخلوقة كالأرواح المدونة في الكتب السماوية المنزلة،، وإذا نظر القارئ إلى تفسير أبي السعود، رحمه الله، للروح بالرحمة، فمن رحماته: رحمات الشرع فهي غير مخلوقة إذ هي من أوصافه العلية، فله وصف الرحمة العامة: رحمة الرحمن: لسائر الخلائق، والرحمة الخاصة: رحمة الرحيم: للأبرار، ومن رحماته: الرحمات المخلوقة أسبابا في دار الدنيا، فبها تقوم الأبدان، كما تقوم الأرواح، كما تقدم، بالرحمات الشرعية النازلة، وجزاء في دار الآخرة، فالجنة: رحمة مخلوقة، يرحم بها الرب، جل وعلا، من شاء من عباده، والرحمات والأرواح المخلوقة، عند التدبر والنظر، أثر رحمات وأرواح الرب، غير المخلوقة، على ما اطرد بيانه من أثر الكلمات الكونيات في خلق الأبدان، والكلمات الشرعيات في تزكية الأرواح، فبرحمته أنزل الوحي لتزكو الروح فتحفظ من أسباب الضلال، وبرحمته أنزل المطر ليخرج الزرع وينمو فتقتات به الأبدان فتحفظ من أسباب الهلاك، وبذلك يظهر وجه القراءة الثانية بضم الراء، فروح، بفتح الراء، فتلك الراحة، وروح، بضم الراء، فالنعيم للروح والبدن معا، وكلها معان تدل على عظم المنة الربانية على أهل دار السلام.

ونكر الروح تعظيما وعطف عليه الريحان على حد التنكير، فهو، أيضا، مئنة من التعظيم، وهو مما تنتعش به الأرواح، ثم عطف عليهما: عطف العموم على الخصوص: وجنة نعيم: فهي محل النعم الكاملة والرحمات المتتالية، وإضافتها إلى النعيم: إضافة ظرف إلى مظروفه، فهي محل النعيم الدائم فلا منع ولا قطع.

ومن قوله تعالى: (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)

فذلك تفريع آخر في معرض استيفاء الوجه الثاني من أوجه القسمة الثلاثية، وهم أصحاب اليمين، الذين تقدم ذكرهم في صدر السورة في قوله تعالى: (فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ)، فذلك جار مجرى ما تقدم من رد العجز على الصدر، فأما إن كان من أصحاب اليمين، فجاء التفريع بـ: "أما"، و: "إن" الشرطية أيضا، وفعل الكينونة مئنة من الدوام والاستمرار، فكينونة وصفهم بما يسرهم، فرع عن كينونة وصفهم في الدنيا: (قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ)، فكانت حالهم الإشفاق، على جهة الديمومة والاستمرار، أيضا، فجاءت ديمومة وصف الثناء وما يتفرع عنه من الثواب فرعا عن ديمومة وصف الإشفاق وما يتفرع عنه من دوام المراقبة، فالخوف يولد في نفس صاحبه إشفاقا، فإذا انضم إليه إحسان الظن بالرب، جل وعلا، ولد ذلك المزيج المتوازن من الرهبة والرغبة، ولد من الإرادات والأقوال والأفعال النافعة ما تحصل به الطمأنينة في دار الدنيا، والنجاة في دار الآخرة، فلا يكون صلاح دين ودنيا إلا بالمزج بين الرهبة بالخوف والرغبة بالرجاء في توازن عجيب لم يأت به وحي كما جاء الوحي الخاتم

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير