تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثم جاء التذييل بقصر آخر بتقديم ما حقه التأخير: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ: وفيه، أيضا، من دلالة المنطوق والمفهوم تعريضا بالكافرين فلا حظ لهم من التوكل على الله، عز وجل، وإنما وكلوا إلى أنفسهم وإلى الأسباب المشهودة، فلا حظ لهم من التأييد بالأسباب المغيبة من جند الرب، جل وعلا، التي لا يعلمها إلا هو، فهم كفار بالغيب، منكرون له، هازئون بمن اعتقده، فأنى ينصرون به، وإنما غايتهم بذل الأسباب المشهودة، وذلك ما يشترك فيه كل البشر مؤمنهم وكافرهم، ولذلك جاء الأمر في معرض الإيجاب والحض للمؤمنين على بذل الأسباب المشهودة برسم التوكل، فلا تواكل برد الأمر إلى أسباب الغيب دون بذل السبب في عالم الشهادة، ولا غلو في الأخذ بأسباب الشهادة فيصير حال الآخذ بها إنكار الأسباب المغيبة تصريحا أو تلميحا، كما هو حال العلمانيين المنكرين لقوى الغيب في زماننا، مع أن كثيرا منهم لا سيما في مجتمعاتنا الإسلامية التي تعاني تخلفا مدنيا فحظها من أسباب التكنولوجيا ضئيل، مع أن كثيرا منهم يتشدقون بأدوات التكنولوجيا العصرية وهم في حقيقتهم من أجهل الناس بها وأبعدهم عن مباشرتها، وإنما دعوى عريضة ولا شاهد لها من الفعل، فكلام كثير وفعل قليل بل ربما عديم!. وإنما يمتاز المؤمن بقدر زائد هو الاعتماد على الأسباب الغيبية بعد بذل الأسباب المشهودة، فرسمه، كما تقدم، التوكل، فقد اختص دون غيره من سائر الفاعلين بمباشرة تلك العبادة القلبية، وهي من العسر بمكان، لما جبلت عليه النفوس من التعلق بالمحسوس، فلا تسلم من شوائب تعلق القلب بغير الله، عز وجل، إلا لآحاد المخلصين الذين اصطفاهم الرب، جل وعلا، بتحرير تلك العبادة القلبية الدقيقة وتنقيتها من شوائب التوكل على من سواه، ولكل منا، إلا من رحم الرب، جل وعلا، نصيب من هذا التلوث الإيماني، إن صح التعبير، بتلك الشوائب فمن مقل ومن مستكثر، وذلك أمر تتفاوت فيه القلوب، بل القلب الواحد بتفاوت أحواله من سعة أو ضيق .... إلخ، تتفاوت فيه تفاوتا لا يحصيه إلا رب العباد جل وعلا.

و: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ:

فذلك، كما ذكر صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، من باب البيان للآية السابقة، ولذلك حسن الفصل، فلا عاطف بينهما، إذ التلازم بين المبين والمجمل الذي يبينه: تلازم وثيق، وجاء البيان، أيضا، بأقوى أساليب القصر، فالاستفهام قد نزل منزلة النفي بقرينة التعقيب بالاستثناء، كما في قوله تعالى: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ)، أي: ما جزاء الإحسان إلا الإحسان، فما تترقبون، على جهة الحرص والتحري، فتلك دلالة مادة التربص في لغة العرب، ولا يكون التربص إلا بالغير، وإنما أنزلت النفس منزلة الغير في نحو قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ): مئنة من التوكيد على وجوب العناية بهذا الشأن لئلا يقع التساهل من المطلقة في أمر عدتها إن تاقت نفسها إلى النكاح، فذلك من المبالغة بتمثيل حالها في تحري الدقة والأمانة في أمر عدتها بمن يتربص بعدوه فيترقب سقوطه أو حصول المكروه له، وإلى طرف من ذلك أشار صاحب "الكشاف"، غفر الله له، بقوله:

"في ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث، لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن، وذلك أن أنفس النساء طوامح إلى الرجال، فأمرن أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويجبرنها على التربص". اهـ

فما تتربصون بنا إلا حسنة عاجلة كالنصر الذي يظهر أثره معجلا في عالم الشهادة، أو حسنة آجلة كالشهادة التي يظهر أثرها مؤجلا في دار الجزاء، وفي المقابل:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير