تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

، وإلا فقد دل قوله قبل ذلك: {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} على السابق القضاء والقدر النافذ والمعاصي قد تكون بعضها عقوبة بعض فيكون لله على المعصية عقوبتان عقوبة بمعصية تتولد منها وتكون الأولى سببا فيها وعقوبة بمؤلم يكون جزاءها". اهـ

"شفاء العليل"، ص255، 256.

وقد ورد في كلام أهل العلم تفسير للحسنة، وعموما جنسي استغراقي، كما تقدم، ورد في كلامهم تفسير للجنس بذكر بعض أفراده، ففسرت الحسنة بأنها كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، فيكون ذلك تفسيرا للعام بأشرف أفراده، فإن كلمة التوحيد أشرف الحسنات، فلا يكون ذلك مخصصا لعموم الحسنة، فذكر بعض أفراد العام في معرض التمثيل لا يخصصه، كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارا، فهو من المعاني الجليلة التي نبه عليها من تكلم من المحققين في أصول تفسير الكتاب العزيز، وفرع عن ذلك صاحب الأضواء، رحمه الله، مبحثا لطيفا في دلالة "من" في قوله تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا)، فمن قال بأن لا إله إلا الله: هي المراد من الحسنة في الآية، فقد أهمل دلالة: "خير" على التفضيل، إذ لا أفضل من لا إله إلا الله، فتكون دلالة: "من": سببية، فله خير مسبب عنها، فهي السبب في الخير الناشئ عن التلفظ بها والعمل بمقتضاها، مع كونها لابتداء الغاية، فذلك معنى لا يفارقها، فإن المسبب ينشأ بداهة من السبب، فابتداء غاية المسبب من السبب، ومن اعتبرها، فـ: "من" عنده لابتداء الغاية فقط، فله خير منها، بالنظر إلى أنها، وإن كانت أشرف خصال التوحيد إلا أنها لا تخرج عن كونها فعلا للعبد، بخلاف الثواب عليها فهو من فعل الرب، جل وعلا، وفعل الرب، تبارك وتعالى، أشرف من فعل العبد بداهة، وذلك وجه تفضيل الناشئ عنها عليها، فذلك بالنظر إلى الفاعل، ففاعل الناشئ عنها من الثواب، وهو الرب، جل وعلا، خير من فاعلها وهو العبد الناطق بها.

وإسناد المجيء بالحسنة أو السيئة إلى العبد فيه نوع تمثيل، فحاله كحال المكتسب الذي يسعى على أهله ثم يجيئهم آخر النهار بكسبه، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فالتمثيل هنا تقريب للمعنى، فلا ينفي اكتساب العبد للفعل بإرادة حقيقية مؤثرة في إيقاع المقدور على ما قد علم وكتب الرب، جل وعلا، أزلا، فليس ذلك ذريعة إلى نفي فعل العبد للحسنة أو السيئة على جهة الحقيقة لا المجاز كما قال ذلك من نفى اكتساب العبد للفعل، فجعل نسبة الفعل إليه نسبة مجازية، والصحيح أنها نسبة حقيقية، فالتمثيل هنا نوع تقريب للمعنى لا تحريف له بحمل الأمر على المجاز لا على الحقيقة، والبلاغيون، على الراجح من أقوالهم، يجعلون الدلالة اللفظية في التمثيل: دلالة حقيقية، فدلالة لفظ المشبه عليه: دلالة حقيقية، وكذلك دلالة لفظ المشبه به، فلا يمنع التمثيل إرادة الحقيقة، كما لا تمنع الكناية إرادة المعنى الحقيقي، بخلاف المجاز الذي يمنع إرادة الحقيقة لقرينة صارفة، ولا قرينة صارفة هنا من نقل أو عقل، تنفي حقيقة إسناد الفعل إلى فاعله، دون أن يخرج بذلك عن دائرة إسناد ذات الفعل إلى الرب، جل وعلا، ولكن على جهة الخلق، فالعبد، كما تقدم، فاعل، والرب جل وعلا خالق.

وذكر صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، وجها آخر للمجيء هو مجيء الحسنة أو السيئة في كتاب العبد يوم الجزاء، فتجيء مسطورة في صحيفته، ولا ينافي ذلك المعنى الأول، بل هو لازمه، فكل ما يفعله العبد في عالم الشهادة يكتبه الملك، ليجازى عليه المكلف يوم الحشر. فتوارد كلا المعنيين، على ذات السياق: جائز، بل واجب عقلا، فكتابة الأعمال، كما تقدم، لازم فعلها في عالم الشهادة بإرادة حقيقية مؤثرة في إيجاد المفعول خيرا كان أو شرا، وذلك مما يثري السياق باحتماله لأكثر من وجه صحيح.

ثم جاء التذييل بقوله تعالى: (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ): احترازا من ظلم الرب، جل وعلا، للعبد، فإنه، تبارك وتعالى، غني عن عباده فلا يظلمهم ولا يبخسهم شيئا من أعمالهم، فإجمال الظلم في هذا الموضع قد جاء بيانه في مواضع أخرى من قبيل قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا).

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير