تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرا: فنكرت الأنعام مئنة من التكثير، فالسقي بالماء يعم سائر أجناس الأنعام، فذلك جار ما تقدم مرارا من دلالة عموم النعمة على عظم المنة بها، وعطف عليها البشر على جهة التكثير، فذلك من إيجاز التنزيل بحذف الوصف الأول والاكتفاء بالوصف الثاني على ما اطرد في لسان العرب من الاكتفاء بالقيد الواحد، فتقدير الكلام بذكر القيدين: أنعاما كثيرة وأناسي كثيرا، فاستغنى بالتنكير الدال على الكثرة لقرينة سياق المنة التي يناسبها التكثير لأعداد المنتفعين بالمنة الربانية بإنزال الماء، استغنى به عن النص على القيد، فضلا عن دلالة القيد الثاني على القيد الأول، فذلك كما تقدم من صور إيجاز الحذف لما يدل عليه المذكور في السياق، وإن جاء على خلاف المطرد في لسان العرب بحذف المتأخر لدلالة المتقدم عليه لا العكس كما هو الحال على هذا التقدير، فيستغنى عن ذكر المحذوف خشية التكرار المعيب، ويقال من جهة أخرى بأن: الإطناب بذكر أصناف المنتفعين، فنص على الأنعام ثم على البشر، آكد، أيضا، في تقرير المنة الربانية بحصول عموم الانتفاع بالماء النازل من السماء.

ثم جاء التذييل بعلة أخرى من علل الامتنان بهذه النعمة الربانية السابغة التي عمت سائر أجناس الخليقة: ناطقها وأعجميها:

وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا: فجاء التوكيد بـ: "قد" ولام القسم، وجاء فعل التصريف منسوبا إلى ضمير الفاعلين على ما تقدم من إرادة التعظيم في سياق الامتنان، والتصريف، أيضا، مادة كلية تقبل الانقسام إلى:

التصريف الكوني: فيكون الضمير عائدا على المطر، فصرف بين البشر، فذلك فعل الربوبية: ليذكروا، والتذكير بتقصيرهم في شكر هذه النعمة الربانية، فيحملهم ذلك على المقاربة والتسديد في امتثال أحكام الألوهية فذلك لازم فعل الربوبية بالإيجاد والإعداد لقوى الحياة والإمداد بأسبابها وأظهرها الماء فهو سبب الحياة الأول كما تقدم من قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ)، والتذكير، أيضا، بإمكان وقوع البعث على ما تقدم من دلالة قياس الأولى، فالإخراج من العدم أهون من إعادة الخلق السابق. والسياق يحتمل كلا المعنيين، فالتذكير بكليهما يزيد المعنى ثراء، بتوارد أكثر من معنى صحيح على سياق لفظي واحد.

وذلك جار على ما تقدم مرار من التلازم الوثيق بين أفعال الربوبية وأحكام الألوهية.

والتصريف الشرعي: فيكون الضمير عائدا على الكتاب العزيز، كما روي عن عطاء الخراساني وصدر به القرطبي، وصدر الزمخشري بما يقرب منه، كما ذكر ذلك صاحب "الأضواء" رحمه الله، فذلك من عود الضمير على غير مذكور، فيصرف الرب، جل وعلا، الآيات الشرعية بالوعد والوعيد والتذكير بالآيات الكونية والبيان للأحكام الشرعية، والسياق شاهد للمعنى الأول، فالأصل عود الضمير على مذكور تقدمه، وإن كان المعنى الثاني صحيحا، فحمل السياق على كلا المعنيين، جائز لعدم وقوع التعارض بينهما.

فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا: فذلك معنى شهدت له مواضع من التنزيل من قبيل قوله تعالى: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)، فذلك جار مجرى التوكيد، وبينته مواضع أخر، من قبيل قوله تعالى: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)، كما أشار إلى ذلك صاحب "الأضواء" رحمه الله، فتجعلون شكركم لنعمة المطر: نسبته إلى غير الله، عز وجل، على جهة الاستقلال بالتأثير، فتقولون: مطرنا بنوء كذا، كما تقدم من حديث زيد بن خالد، رضي الله عنه، مرفوعا وقد تقدم: "صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنْ اللَّيْلِ فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ قَالَ أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِي فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ وَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير