تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وعلى ما اطرد من جمع أدلة الباب، جاء وصف السفينة في هذا السياق بالجريان، على جهة الحذف فأقيمت الصفة مقام الموصوف، كما تقدم، فهو شاهد لمن قال بمجاز الحذف ومنكر المجاز في التنزيل يجريه على قاعدته المطردة فذلك أيضا مما جرى به اللسان العربي كما في قول اليشكري:

هُمْ صَلَبُوا العَبْدِيّ فِي جِذعِ نَخْلَةٍ ******* فَلا عَطَسَتْ شَيْبان إلا بأجْدَعا

أي: بأنف أجدعٍ

فصار حقيقة باعتبار الاستعمال وإن لم يكن حقيقة باعتبار الوضع اللغوي فالأصل فيه: ذكر الموصوف فلا يحذف إلا لنكتة بلاغية كأن يكون معلوما متبادرا إلى الذهن فيكون ذكره حشوا لا لزوم له فذكره يفقد السياق رونقه، فالجدع صفة تتعلق بالأنف، فذكرها مغن عن التصريح به، وإن لم تختص به، فالجدع يكون للآذان، كما في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ كَمَا تُنَاتَجُ الْإِبِلُ مِنْ بَهِيمَةٍ جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ"، فصارت تلك قرينة مرجحة لا معينة، فجاءت نسبة فعل العطس إليه لتعين المراد منه، فالعطس لا يكون إلا من الأنف بداهة، فتلك قرينة سياقية أغنت عن ذكر الموصوف دون الحاجة إلى القول بالمجاز، فالدلالة الحملية للكلام بالنظر إلى الظاهر المركب من اللفظ والسياق معا تعين المعنى المراد، وإن احتمل أكثر من معنى فذلك إنما يكون بالنظر إلى دلالته الإفرادية، واللفظ لا يعلم معناه بمجرد العلم بدلالته المعجمية بل لا بد من النظر في السياق الذي يرد فيه، فهو، كما تقدم مرارا، أصل في معرفة مراد المتكلم.

وجاء بيان مادتها في سياق آخر في سورة القمر: (وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ)، على نفس المنوال فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، فالصفة هي محط الفائدة، وقد أغنى السياق: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ)، عن ذكر الموصوف، فالجريان على سطح الماء مظنة إرادة السفينة، فضلا عن دلالة المادة التي صنع منها عليه، فالألواح والدسر التي تحمل البشر والحيوان حال جريان الماء هي أجزاء السفينة بداهة، وفيها إشارة لطيفة إلى طريقة صنع السفن، وتلك منة زائدة على البشر، فإلهام البشر طرائق الصناعات النافعة مما يصلح به أمر المعاش، فكان الأمر شرعيا، كما تقدم، بصناعة الفلك وحمل الأزواج عليه، ولم يخل من وجه امتنان بنعم كونية من أعظمها النجاة من الطوفان المغرق، فضلا، عما تقدم، من تعليم البشر ما ينفعهم في دنياهم، فالرسالات لم تأمر البشر إلا بما فيه صلاح دينهم ودنياهم فهي معدن السلامة في الأولى والنجاة في الآخرة، فينتفع أتباعها بأخبارها وأحكامها في أمرهم العاجل ومصيرهم الآجل.

ومما يزيد المنة الربانية تقريرا: مجيء ضمير المخاطب في: "حملناكم"، فذلك بالنظر إلى الأصل، فنجاة الفرع المخاطب فرع عن نجاة أصله بإنجاء نوح، عليه السلام، فهو أبو البشر الثاني.

وعلى ما اطرد من التلازم الوثيق بين الآيات الكونية الباهرة، فهي مئنة من كمال ربوبيته، عز وجل، والأحكام الشرعية، فهي مئنة من الألوهية، فالإله هو الذي يأمر وينهى، فلكل إله، ولو باطل، شرع نافذ في عباده، فالرب، جل وعلا، أحق إله بذلك، بل لا إله غيره يستحق ذلك ابتداء، فلا معبود بحق سواه، فإن عبد غيره فهو إله معبود بالباطل فلا دليل من شرع أو عقل أو حس يشهد بصحة ألوهيته، فبطل كل حكم سوى حكمه الذي أخبر به رسله عليهم السلام، فالنبوة هي الحكم العدل في كل ما يقع بين البشر من شجار ونزاع: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، و: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير