- فكون قراءة نافع هي قراءة أهل المدينة جعلها الناس المقدمة على غيرها، ولعلنا نسترشد برسالة الإمام مالك لليث بن سعد في حديثه عن المدينة: (فإنما الناس تبع لأهل المدينة، إليها كانت الهجرة، وبها نزل القرآن، وأحل الحلال، وحرم الحرام، إذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين أظهرهم، يحضرون الوحي والتنزيل، ويأمرهم فيطيعونه، ويبين لهم فيتبعونه، حتى توفاه الله واختار له ما عنده صلوات الله عليه ورحمته وبركاته، ثم قام من بعده أتبع الناس له من أمته، ممن ولي الأمر بعده، فما نزل بهم مما عملوه أنفذوه، وما لم يكن عندهم فيه علم سألوا عنه ثم أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك) ..
- ولعل مالكاً يقصد هنا الاختيار الفقهي، لكن عموم الكلام يحتمل إدخال القراءة فيه، لنقول أن الناس تبع لأهل المدينة في قراءتهم، بل ولعل هذا يكون أولى، لأن القراءة لا مكان للرأي فيها، وإنما هي سنة متبعة. وقد نقل ابن مجاهد في كتابه السبعة عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قوله: (القراءة سنة، فاقرأوا كما تجدونه).
ومن هنا تواضع المصنفون في القراءات على تقديم نافع رغم تأخر وقته ووفاته عنهم إلا الكسائي، وابتدأ برواية قالون عنه، وتبعه المصنفون على ذلك، ومن هؤلاء الشاطبي في نظمه الشهير"حرز الأماني" وفسر بعضهم ذلك أنه تفضيل لعلم نافع وشرف محله (أي شرف المدينة)، كما قال الفاسي في اللآلئء الفريدة والقسطلاني في لطائف الإشارات، ويظهر أن فعلهم هذا إنما هو إيثار لما عليه أهل المدينة من القراءة.
يقول ابن عاشور -رحمه الله- في حديثع عن تفسيره: (وأبني أول التفسير على قراءة نافع برواية عيسى بن مينا المدني الملقب بقالون، لأنها القراءة المدنية قارئا وراويا، ولأنها التي يقرأ بها معظم أهل تونس، ثم أذكر خلاف بقية العشرة).
ولا يمكن الجزم أن رواية ورش هي قراءة أهل المدينة، فورش أخذها من مصر أولاً ثم عرضها على نافع، أما قالون فقد كان ملازماً لنافع، ولذلك كانت عادة القراء الذين يبدؤون بنافع -كما أسلفنا- أن يبدؤوا بقالون، ثم ورش، ولم يخالفهم في ذلك إلا ابن بري في الدرر اللوامع ... ولذلك انتقد المارغني ابن بري في تقديمه ورشاً على قالون، فقال: (إذ كانوا يلتزمون تقديم قالون عليه، لأنه مدني، ولأن كبار الأئمة كالداني والشاطبي قدموه، ولذا جرى عملنا بتونس بتقديمه على ورش في الإفراد والجمع) ...
وابن بري يقول في منظومته:
على الذي روى أبو سعيدِ
عثمانُ ورشٍ عالمُ التجويد
رئيسُ أهلِ مصرَ في الدرايهْ
والضبط والإتقان في الروايهْ
والعالم الصدْرُ المعلِّم العلَمْ
عيسى بْنُ مينا وهْو قالون الأصَمّ
أثبتُ منْ قرأ بالمدينهْ
وَدَانَ بالتقوى فزان دِينهْ
- وكما أسلفت فإن رواية ورش لا يمكن الجزم أنها ما كان شائعاً بين أهل المدينة من القراءة، والرواة عن نافع كثر، وإن كان أشهرهم ورش وقالون، وقالون مدني وقد ولد فيها ولازم نافعاً أكثر من عشرين سنة ... ومن أشهر الرواة عن غير ورش وقالون: اسحاق بن المسيبي، وإسماعيل بن جعفر ... وورد في بعض مصادر اللغة نسبة قراءة المدينة إلى المسيبي، ومن ذلك ما قاله المازني النحوي: (فأما قراءة من قرأ من أهل المدينة "معائش" بالهمز فهي خطأ، فلا يلتفت إليها)، وهمز معايش غير معروف عن ورش أو قالون من طرقهم المختلفة، وإنما معروفة من رواية المسيبي عن نافع ... أما ما قاله هذا النحوي فلا نوافقه عليه، فإن صحت الرواية فإنما هي حجة على مقاييس النحويين لا العكس.
ولا يزال أهل المغرب إلى اليوم يحفظون تلك الروايات عن نافع فيما يسمونه بالعشر الصغير، وهي عشر طرق وردت عن نافعه لرواته الأربعة المشهورين الذين ذكرناهم أعلاه.
والله أعلم.
ـ[أشرف الضويحي]ــــــــ[03 - 12 - 08, 09:54 م]ـ
جزاك الله خير
ـ[اسامة عبد الرافع]ــــــــ[04 - 12 - 08, 12:30 م]ـ
بارك الله فيكم وجزاكم خيرا كثيرا على توضيحكم وردودكم وإجابتكم.
لكن أرجو على السؤال:
هل أهل الجنة يقرأون القرآن - دون النظر إلى إي رواية أو قراءة - كما هو حال المؤمنين في الحياة الدنيا أم أن الجنة فقط دار جزاء ولا عمل؟
اقرأ ورتل كما كنت ترتل في حياتك الدنيا
متى هو؟
هل يشمل فقط القارئ وكيف هو الحال بالذي لم يكن يعرف القراءة؟
ـ[ساري عرابي]ــــــــ[04 - 12 - 08, 02:58 م]ـ
¥