تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

.. وبعد؛ فقد يبدو للناظر بادئ ذي بدء أن يتكره هذا القول وينكره؛ لما فيه من الحكم على بعض أوجه القراءات السبع بعدم الصحة، لما شاع بين المتأخرين والعامة؛ من أن هذه القراءات السبع متواترة تفصيلا؛ بما فيها من بعض الاختلاف في الحروف وبما فيها من أوجه الأداء، وهذه شائعة غير صحيحة، بدأ القول بها بعض متأخري العلماء ثم تبعه فيها غيره؛ ثم أذاعها عامة القراء وعامة أهل العلم من غير نظر صحيح ولا حجة بينة؛ وقد ردها كثيرون من أئمة القراء والعلماء، قال أبو شامة المقدسي: ونحن وإن قلنا إن القراءات الصحيحة إليهم نسبت وعنهم نقلت، فلا يلزم أن جميع ما نقل عنهم بهذه الصفة، بل فيه الضعيف لخروجه عن الأركان الثلاثة.

... وقال إمام القراء الحافظ أبو الخير بن الجزري في كتاب (النشر) (1/ 9): كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه؛ ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا، وصح سندها، فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووجب على الناس قبولها، سواء كانت عن الأئمة السبعة أم عن العشرة أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين. ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة، سواء كانت عن السبعة أو عمن هو أكبر منهم. هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف، صرح بذلك الإمام الحافظ أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني، ونص عليه في غير موضع الإمام أبو محمد مكي بن أبي طالب. وكذلك الإمام أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي. وحققه الإمام الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامه، وهو مذهب السلف الذي لا يعرف عن أحد منهم خلافه. قال أبو شامه - رحمه الله - في كتابه المرشد الوجيز: فلا ينبغي أن يغتر بكل قراءة تعزى إلى واحد من هؤلاء الأئمة السبعة ويطلق عليها لفظ الصحة؛ وإن هكذا أنزلت: إلا إذا دخلت في ذلك الضابط. وحينئذ لا ينفرد بنقلها مصنف عن غيره، ولا يختص ذلك بنقلها عنهم؛ بل إن نقلت عن غيرهم من القراء فذلك لا يخرجها عن الصحة، فإن الاعتماد على استجماع تلك الأوصاف، لا عمن تنسب إليه. فإن القراءات المنسوبة إلى كل قارئ من السبعة وغيرهم منقسمة إلى المجمع عليه والشاذ، غير أن هؤلاء السبعة لشهرتهم وكثرة الصحيح المجمع في قراءتهم؛ تركن النفس إلى ما نقل عنهم فوق ما ينقل عن غيرهم. اهـ

... ولم يكن الأئمة السابقون من العلماء يحجمون عن نقد بعض قراءة القراء السبعة وغيرهم، بل كثيرا ما حكموا على بعض حروفهم في القراءة بأنها خطأ، وقد يكون الناقد هو المخطئ ولكنه ينقد عن علم وحجة فلا عليه إن أخطأ. ولو كانت حروف القراء كلها متواترة تفصيلا كما يظن كثير من العلماء وغيرهم: لكان الناقد لحرف منها خارجا عن حد الإسلام، ولم يقل بهذا أحد. والعياذ بالله من أن نرمي أمثالهم بهذا.

... فمن أمثلة ذلك أن إمام المفسرين وحجة القراء أبا جعفر محمد بن جرير الطبري رد قراءة حفص عن عاصم من السبعة ويعقوب من العشرة في قوله تعالى في سورة الحج (آية 25) (سواءً العـ?كف فيه والباد) بنصب (سواء)؛ فقال في تفسيره (17/ 103): (وقد ذكر عن بعض القراءة أنه قرأه (سَوَاءً) نصبًا، على إعمال (جعلنا) فيه، وذلك وإن كان له وجه من العربية فقراءة لا أستجيز القراءة بها، لإجماع الحجة من القراء على خلافه)!.

... وقد رد الطبري والزمخشري - وهما إماما العربية والتفسير - قراءةَ ابن عامر في قوله تعالى في سورة الأنعام (آية 137): (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولـ?دهم شركاؤهم)؛ فقال الطبري (8/ 33): (وقرأ ذلك بعض قراء أهل الشام (وكذلك زُين) بضم الزاي (لكثير من المشركين قتلُ) بالرفع (أولـ?دهم) بالنصب (شركائهم) بالخفض، بمعنى: وكذلك زُين لكثير من المشركين قتلُ شركائهم أولادَهم، ففرقوا بين الخافض والمخفوض بما عمل فيه من الاسم، وذلك في كلام العرب قبيح غير فصيح، وقد روي عن بعض أهل الحجاز بيت من الشعر يؤيد قراءة من قرأ بما ذكرت من قراءة أهل الشام، رأيت رواة الشعر وأهل العلم بالعربية من أهل العراق ينكرونه). وقال الزمخشري في الكشاف (2/ 42): (وأما قراءة ابن عامر (قتلُ أولادَهم شركائِهم) برفع القتل ونصب الأولاد وجر الشركاء، على إضافة القتل إلى الشركاء، والفصل بينهما بغير ظرف: فشيء لو كان في مكان الضرورات - وهو الشعر - لكان سمجًا مردودًا، كما سمج ورد [زج القلوص أبي مزاده] فكيف به في الكلام المنثور! فكيف به في القرآن المعجز بحسن نظمه وجزالته!!).

... وقد أطال الإمام ابن الجزري في كتاب (النشر) القول في الرد على الطبري والزمخشري في نقدهما هذا الحرف على ابن عامر، وعقد لذلك فصلا نفيسًا (2/ 254 - 256)، ولسنا بصدد تحقيق الصواب في هذا الخلاف هنا، ولا نبغي أن نحكم بالخطأ على ابن عامر، إنما نريد أن ندل على أن المتقدمين لم يكونوا يرون أن وجوه القراء في حروفهم متواترة كلها، وإلا كان في الإقدام على إنكار بعضها جرأة غير محمودة.

... وكذلك أنكر أبو إسحاق الزجاج حرفا من قراءة حمزة في قوله تعالى في سورة الكهف (آية 97) (فما اسْطـ?عوا) إذ قرأها بتشديد الطاء، كما في النشر وغيره من كتب القراءات، قال في لسان العرب (10/ 112): (وكان حمزة الزيات يقرأ (فما اسْطَّـ?عوا) بإدغام الطاء والجمع بين ساكنين. وقال أبو إسحاق الزجاج: من قرأ بهذه القراءة فهو لاحن مخطئ، زعم ذلك الخليل ويونس وسيبويه وجميع من يقول بقولهم).

... ولذلك كله لا نرى علينا بأسا أن نقول: إن قراءة من قرأ بحذف البسملة بين السور في الوصل قراءة غير صحيحة، إذ هي تخالف رسم المصحف فتفقد أهم شرط من شروط صحة القراءة، وأن البسملة آية من كل سورة في أولها سوى براءة، على ما ثبت لنا تواترًا صحيحًا قطعيًّا من رسم المصحف.

... نقلا عن: أحمد محمد شاكر، كلمة الحق، ص120 - 126، ط2، مكتبة السنة، القاهرة، 1428هـ=2007م.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير