بعض الكتب ولا سيما التاريخية تحتوي على عبارات بلهجات محلية «عامية» ويكون في بعض أساليبها شيء من الركاكة.
فهل يحق لمحقق هذه الكتب التصرف في نسخة الكتاب، فيحول الكلام إلى العربية الفُصحى، ويعيد صياغة الفقرات الركيكة، إلى أسلوب عربي جيد.
الذي يظهر لي ان ذلك لا ينبغي مطلقاً، لأن هذه الكتب بهذا الشكل تعطينا صورة دقيقة عن ثقافة العصر الذي كُتبت فيه، وتعطينا صورة فكرية عن المؤلف ومنهجه في التأليف.
وتغيير النص، يحرمنا من الاطلاع على هذه الصورة.
كما ان التدخل في النص مسألة غير مأمونة، وليس لها ضابط، فيختلف الذوق العربي من محقق لغيره.
ثم إن لهذا النص الذي كتبه مؤلفه لذة عند القُرَّاء، وخاصة عند قراءة هذه العبارات التي جاءت «عفوية» ومن دون تكلف، لأن المؤرخين لا يهتمون أحياناً بالجانب الأدبي أو البلاغي عند صياغة الكتاب.
وقد اطلعت على مجموعة من الكتب التاريخية كتبها أصحابها بدون تكلف في اللفظ، ولا سبك للعبارات، بل صاغوا الكتاب بأسلوب بسيط، وساقوا الأحداث كيفما جاءت وبأسلوبهم الخاص الذي يتمشى مع الثقافة السائدة في عصرهم.
ومن الكتب التي قرأتها، وهي متوافقة مع ما ذكرت.
«تاريخ الجبرتي»، و «تاريخ الفاخري»، و «عنوان المجد»، لابن بشر.
وبعض «الفتاوى»، و «المسائل الشرعية» لبعض العلماء لا تخلو من هذا، لأن المفتي لا يتكلف في الإجابة، وقد يفتي السائل بما يناسب المقام، فتنقل عنه الفتوى، وتدون بالصيغة التي خرجت منه في ذلك الموقف. ولو تأملت في معلمة: «الدرر السنية» لتأكد لك ذلك.
فهل سيأتي محقق ليحقق رسائل أئمة الدعوة والأعلام، فيغير في النص بحجة ربطه باللغة العربية الفصحى.
إن المفتي أعلم من المحقق باللغة العربية، وقد كانت دروس النحو والصرف إجبارية لهم، ولكنه هكذا أفتى وأداء الفتوى كما هي من الأمانة.
ولذلك يحترز من يحقق مجاميع الرسائل والفتاوى التي أصلها الجمع والتدوين من التصرف في الصياغة، فيفسد الفتوى، وهو لا يشعر.
وبإمكان المحقق التعريف بالألفاظ الدارجة، والتي يظن انها مجهولة عند الناس فيعرفها في الحاشية.
أمثلة ذلك:
(1) حقق العلامة: عبدالرحمن آل الشيخ: «عنوان المجد»، وقال في مقدمة تحقيقه «1/ 16»: «ملاحظة: لا يخفى على القارئ الكريم اني لم أتعرض لإصلاح ما جاء في كتاب «عنوان المجد» من الأخطاء النحوية، واللغوية، والإملائية، مع كثرتها في الكتاب، وذلك محافظة مني على النص، والأصل» أ. هـ
(2) حقق الدكتور: عبدالله الشبل: «تاريخ الفاخري» وقال في مقدمة تحقيق الطبعة الأولى: «التزمت في هذا المنهج منهج التحقيق الآتي: المحافظة على ما ورد بالنسخة المنقولة بخط عبدالرحمن بن محمد بن ناصر، ولو انه مخالف للقواعد اللغوية، والنحوية، والإملائية الصحيحة، تحقيقاً للأمانة العلمية» أ. ه
وقد عجبت عندما خالف المحقق «الشبل» هذا المنهج، حيث قال في مقدمة الطبعة الثانية «ص7»: «وتمتاز هذه الطبعة عن سابقتها بأمور، أذكر منها: كتابة هذه الطبعة باللغة العربية الفصحى بخلاف السابقة التي نُشرت حسب ما كتبه الناسخ مع ما فيها من أخطاء نحوية، ولغوية، وإملائية، مع المحافظة على أسلوب المؤلف» أ. هـ
وكأنه أراد بالجملة الأخيرة «مع المحافظة على أسلوب المؤلف» انها ضابط منهجي لمن أراد تبديل نص النسخة الخطية.
وقبل الختام أحب ان أنقل للقارئ كلاماً نفيساً للمحقق الطناحي رحمه الله، يتعلق بهذا المزلق، حيث قال في مقدمة تحقيقه ل: «منال الطالب» «ص46 48»: «في أثناء عملي في تحقيق الكتاب، وقعتُ على طائفة يسيرة من الأخطاء والأوهام، كنت أحبُّ ان أردها إلى غفلة الناسخ وحده، فإن الهجوم على تخطئه الأوائل، «نمط صعب ونمط مخيف»، ثم هو من التقحم المزري بصاحبه، ولكن ماذا نصنع والنسخة قد قرئت وصححت من أولها إلى آخرها على مصنفها رحمه الله، ومهما يكن من أمر: فابن ابن الاثير بشر، يجوز عليه ما يجوز على جميع البشر، من السهو والنسيان، وسبحان من تفرد بالعصمة، وتنزه عن النقصان.
«ثم ذكر أمثلة لهذه الأوهام، مع ذكر الصواب فيها .. وقال بعد ذلك»:
وقد كدت ان أكمل الكلام بما ترى، ولكني آثرت ان أتركه على ما هو عليه، وأعلق في الحاشية، اقتداء بهذا العالم الذي كتب في حاشية الكتاب معلقاً على وهم في الحديث الأول فقال:
¥