سابعا: ولجهله المركب لم يدر أنه ليدفع الطعن في عبد الرحمن بن أحمد فقد طعن في شيخه - وهو أحد الأئمة، وراوية سنن ابن ماجة - بما لم يسبقه إليه أحد!
ثامنا: وعبد الرحمن بن أحمد قد سمع من القطان في هذه الحال المأساوية كما يقول المحقق الفذ.
تاسعا: وأهل قزوين ومن اعتمد كلامهم من الحفاظ لم يفهموا موضع العلة وألصقوها جهلا وعدوانا بأبي القاسم عبد الرحمن بن أحمد، مع أن العلة شيخه!
عاشرا: وبالتالي فقد ضعف إسناد الكتاب من حيث أراد ترقيع حاله!!
أخيرا وليس آخرا: لكل داءٍ دواءٌ يُستَطَبُّ به --- إلا الحماقة أعيت من يُداويها!
خلاصة القول أن هذا المحقق وثَّق الضعيف بتضعيف الإمام الثقة الثبت، وارتكب في سبيل ذلك أخطاء مركبة مُسقطة لثقته وعلمه بالكلية، والله يكفي علماءنا وحفاظنا وتراثنا غوائل الجهلة المتسلطين!
عودا على بدء، نواصل رحلتنا في طرق إثبات المحقق لنسبة الكتاب إلى أبي حاتم.
فبعد أن تم هدم معتمده الرئيسي عندما زعم أن الكتاب يثبت برواته المشاهير، وتبين أن سنده ضعيف عند المحدثين بسبب عبد الرحمن بن أحمد، بينما هو ثابت عند المحقق، وضعيف عنده في آن واحد، بسبب أبي الحسن القطان!
ثم ذكر (ص17) دليلا آخر، وهو قوله: "متابعتان تامتان من الخطيب البغدادي وذلك لشيخ شيخ ابن صابر في هذا الكتاب، فيلتقي معه الخطيب البغدادي في تلميذ تلميذ المصنف وهو أبوالقاسم عبد الرحمن بن أحمد صاحب النسخة المقابلة والذي ذكرناه آنفا"
قلت: لو أحضر ما شاء من المتابعات كهذه فلن ترفع من حال الإسناد شيئا، لأن العلة لا تزال قائمة، وهي عبد الرحمن بن أحمد عند أهل الحديث، وأبي الحسن القطان عنده! وقد قدَّمت أن الخطيب نفسه يعتمد ضعف هذه الرواية، فاحتجاج المحقق بإيراد الخطيب لها حُمق.
ثم أورد المحقق (ص17) دليلا ثالثا برأيه، وهي تحصله بعد جهد جهيد لروايةٍ ونصف من الجزء جاءت من غير طريق أبي الحسن القطان عن أبي حاتم، وهذا استدلال غير قاطع، لأن الكلام ليس على ثبوت مرويات أبي حاتم إليه واحدة واحدة، بل نسبة الجزء برمته إليه، والزعم أنه من تصنيفه وتأليفه.
ربما يقفز المحقق قائلا: المهم أنها جميعا من مرويات أبي حاتم، فنقول: لا نستطيع الجزم بذلك نظرا لضعف سند الجزء، ووجود القرائن على بطلان النسبة لأبي حاتم.
وأتبعه المحقق بدليله الأخير، فقال (ص18) إن أبا حاتم روى في الجزء عن عشرين شيخا، وقال: "ترجم ابنه عبد الرحمن في كتابه الجرح والتعديل لثمانية عشر منهم وذكر سماع أبيه منهم، وقال عن اثني عشر شيخا منهم: روى عنه أبي أو معنى ذلك".
قلت: ويجاب عن هذا بما أجيب عن سابقه تماما، إلا أن تفرقته بين حال الثمانية عشر والاثني عشر شيخا مما يدل على تبحر (!) المحقق في الفهم!
بقيت استفهامات مهمة لم يعرج المحقق عليها، وهي:
لماذا هذا الإعراض من الحفاظ عن كتاب منسوب لجبل من الأئمة، وهم قد اهتموا بنقل كل التفاصيل عمن هم مثله بل دونه، وتناقلوا بشغف أخبار وأسامي مؤلفاتهم، وإن فُقدت واختفت في وقت مبكر ولم يرها الحفاظ؟ لا تقل إن الخطيب روى أثرين من طريقه أرجوك، لأن الخطيب هو الذي نقل لنا تضعيف السند!
لماذا لا يعرف عبد الرحمن بن أبي حاتم أن هذا الكتاب لأبيه، وقد لازمه العمر كله، ومثله بقية الحفاظ، بينما يعرفه أبوالحسن القطان، إن ثبت أنه عرفه؟
لماذا يتفرد عن أبي الحسن القطان – وهو الحافظ المشهور المعروف – راوٍ ضعفوه فيه، رغم كثرة تلاميذ أبي الحسن، وأخذ الرحالين والحفاظ عنه من مختلف البلدان، وعلى طبقات عدة؟
ولماذا نجد بعض الأخبار الموجودة في الجزء تُروى من طريق أبي حاتم نفسه ولكن بأسانيد أخرى! وأكتفي بضرب مثالين فقط، فالأثر (رقم 18) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الجوع (165) عن أبي حاتم بسند آخر!
والأثر (رقم 50) رواه ابن أبي الدنيا أيضا في الجوع (230) عن أبي حاتم بسند مغاير!
ربما يلقنه شيخه أن يقول: إن أبا حاتم واسع الرواية جدا، والأصل أن يكون عنده الخبر من أوجه عدة، فيُجاب عنه: أثبت العرش ثم انقش، لو كان الكتاب ثابت النسبة لأجيب بهذا، أما والشكوك متكاثرة فيُعتبر هذا من الاختلاف القادح!
هذا ما بعض نلتمس من المحقق الإجابة عليه، ولكن بعد أن يدرس على شيخه الإدلبي التذكرة لابن الملقن، ليحثه حثا متواصلا ليس على إخراج المخطوطات - فتلك مهمة باتت قديمة دون مستواه - بل على إخراج الموسوعات!
الخلاصة: فظهر بذلك أن الكتاب يصعب إثبات نسبته للإمام الحافظ أبي حاتم الرازي، والأقرب بُطلان النسبة إليه من الناحية العلمية، أما من الناحية العاطفية فلا أستطيع منع المحقق الكريم من اعتقاد ما يهواه!
وبهذا يسقط - من ضمن ما يسقط - قول المحقق الفاضل (ص4): "وهذا مصنف في الزهد للإمام أبي حاتم محمد بن إدريس بن المنذر الرازي، رأيت في إخراجه خيرا كثيرا من جهة موضوعه .. ومن جهة أنه للإمام أبي حاتم رحمه الله، فهذا أول كتاب ينشر له فيما علمت، ولئن انتشر كثير من علم أبي حاتم بما نقله عنه ابنه عبد الرحمن في كتبه فهذا كتاب صنفه أبوحاتم بنفسه (!) وفرقٌ بين كتاب صنفه الرجلُ فكان فيه اختياره من الرجال (!!) والأخبار وكتاب حوى علم الرجل وحفظه، ودل على طريقته ومنهجه (!) إذ لم يرو إلا عن العدول [ملاحظة: ذكر المحقق في فهرس الشيوخ اثنين لم يعرفهما، وواحدا تُكلم فيه، من أصل عشرين شيخا!] ممن عرفناه من شيوخه في هذا الكتاب، ثم هو يذكر الفوائد في علم الرجال (!!) إلى غير ذلك (!!) ". انتهى كلامه.
فما صدَّق المحقق أن أصَّل خطأ حتى قاس وفرَّع! فالحمد لله رب العالمين.
ولسائل أن يقول: فمن المؤلف إذا؟
أقول: بعد البحث والدراسة يترجح لدي أن الكتاب ينبغي أن يُنسب تأليفه للمحقق الفاضل، بسبب كثرة إثخانه في النص إسقاطا وتغييرا ومسخا وتحريفا ابتداء من العنوان! بحيث غدا مجهول الهوية، والأولى أن يُلصق به!
هذا ما ظهر لي، والله تعالى أعلم.
¥